بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، ظهر توازن جديد للقوى على الساحة الدولية، فلم يعد الاستعمار التقليدي والرغبة في السيطرة على طرق التجارة بالاضافة الى مصادر الثروات، لم تعد هذه هي اسباب الحروب، بل تحولت الى صراع ايديولوجي تدميري يدعو كل طرف الى افناء الطرف المقابل. ونتيجة لهذا الهاجس المخيف عملت القوتان الرئيستان منذ اوائل الخمسينات وحتى زوال احدهما –الاتحاد السوفيتي– في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، عملت هاتان القوتان على خوض سباق شامل وليس في التسلح فقط، بل امتد الى التدخل في الصراعات الاقليمية ودعم الحكومات الموالية.. بحيث اصبحت اغلب بلدان العالم اما منحازة لاحدهما، او منطقة نفوذ له.. وتجد في كلتا الحالتين معارضة، قد تكون مسلحة، مدعومة من الطرف الاخر.
ان توازن القوى هذا خلق واقعا جديدا في عموم العالم، يقوم اما على مسخ الشخصية الوطنية من اجل البقاء، او على تقديم القرابين البشرية كضحايا للحروب المستمرة من اجل تلك الشخصية والهوية الوطنية. وكلا الامرين افرز نتائج عبثية وفوضوية في الشعوب، وعدم الثقة في المستقبل، وانهيار القيم التي تدعو لها الاطراف المتنازعة امام كثرة ضحايا الحروب ومشاهد الرعب والفزع لدى الابرياء.
وفي محاولتها خوض الحروب على كافة المستويات، فقد سلكت مخابرات القوتين العظميين طرقا شائنة في نظرنا الحاضر للفوز بمعارك مخابراتية، تقوض سلطة واسناد احدهما على حساب الاخر. وظهرت قصص خيالية في بعض الاحيان عن القدرات العالية لتلك المخابرات سواء على الصعيد القومي، او على الصعيد الاممي. وشاعت رهبة تلك المخابرات لدى عامة الناس، بحيث اصبح هناك اعتقاد شائع على قدرتها على تغيير الانظمة.. بل ان جميع الانظمة لابد ان تكون عميلة والا فانها ستستبدل فورا.
ولما كانت نظريات من هذا النوع تخدم اغراض الحرب الباردة، على الاقل من ناحية زرع الخوف في نفوس الفريق المقابل، فقد عملت دوائر مخابرات الطرفين على تغذيتها بشكل مستمر وباستخدام كافة القنوات، بدءا من المستوى الشعبي ومرورا باستخدام وسائل الاعلام المختلفة وانتهاءا بالمستوى القيادي للشعوب والامم.
ولازلت اذكر فلما شهيرا عرض خلال فترة السبعينات، في اوج الحرب الباردة، ضمن مجموعة من افلام التجسس التي وجدت لها ارضا خصبة واعتمادات هائلة. ذلك الفيلم هو (تلفون) بطولة النجم الشهير (تشارلز برونسن).. والذي يقوم بدور عميل مخابرات سوفييتي يعمل من اجل منع عميل اخر خائن يستغل معرفته ببعض الاسرار ليوجهها ضد اهداف حيوية في الولايات المتحدة. الفيلم يعكس مزاج التصديق في تلك الفترة، لان قصته تقوم على تدريب اناس عاديين ليكونوا انتحاريين باستخدام التنويم المغناطيسي، بحث اذا سمع احدهم من خلال التلفون بمقاطع شعرية معينة، غط في سبات عميق وذهب لتنفيذ العملية الانتحارية بدون شعور. واليوم، نعرف ان التنويم المغناطيسي وان كان يحرر العقل الباطن لدى الانسان، الا انه لا يستطيع ان يغير قناعاته الراسخة، وقيمه العليا.. والتي منها الرغبة في الحفاظ على النفس، تلك الغريزة االمتأصلة، وبالتالي لن ينجح أي تنويم مغناطيسي على حمل الانسان –على غير ارادته– على الانتحار.
ان افلاما كهذا، وكتب ومقالات ومنشورات، وبرامج تلفزيونية ومقابلات صحفية، وندوات ثقافية ومؤتمرات علمية، كانت تركز طيلة تلك الفترة على النشاط الاستخباراتي، وعلى قدرة التجنيد الخارقة التي يتمتع بها الفريقان، وعلى امكانية تحقيق الاهداف المنشودة من خلال تلك الحرب غير الباردة ولكن غير المنظورة ايضا. وانعكست هذه الدعاية الشاملة على مجتمعنا العربي بكل ثقلها. ففي اوائل القرن الماضي، لم تكن دولة واحدة عربية يحكمها اهلها، بل كانت مستعمرات يحكمها الانجليز والفرنسيون والايطاليون فضلا عن الاتراك. وحين انهزمت الامبراطورية العثمانية، اصبحت الدول العربية مستعمرات صريحة للدول التي ستشكل فيما يلي اقطاب الحربين الكبيرتين المدمرتين. ثم ينتصف القرن على تبدل اخر، حيث نشأت طبقات مثقفة في الدول العربية بدأت تطالب بالتحرر من الاستعمار، متأثرة الى حد كبير بالدعاية السوفيتية حول حرية الشعوب والشعارات البراقة من المساواة الى الحرية. وسرعان ما كانت الانقلابات المسلحة في تلك البلدان تأتي الى السلطة باناس اعتنقوا مذهب (الثورة لمن يصنعها) وبالتالي اصبحوا خلال نصف القرن التالي الصناع الوحيدين لقرارات الامة، واخمدوا كل معارضة بكافة الوسائل المتاحة.. ولم تصب الشعوب العربية بالصدمة اولا، لانها لم تدرك مقدار الخدعة التي تعرضت لها. ولكنها حين استفاقت ووجدت حالها بعد التحرر من الاستعمار ليس احسن، ان لم نقل اسوأ، من حالها قبله.. فبدأ السؤال يطرح بجرأة اكثر: ما الجدوى من كل ما يحدث؟
ربما لن تتم اجابة أي سؤال مثل هذا ابدا، فالجهل صفة الصق بالانسان من صفة العلم. وطالما كانت الامور تجري بشكل غير مفهوم لنا، فهي بالتأكيد ستكون مفهومة لاخرين، صناع السياسة ودهاقنتها، ووكالات الاستخبارات وعملائها، واجهزة الحكم الوطنية منها والعميلة. ان هؤلاء وغيرهم يمتلكون اجابات محددة، ولديهم تصورات كاملة وخطط شاملة لما حدث ويحدث وما قد يحدث في أي وقت في المستقبل. وبالطبع فان فكرة عامة مثل هذه الفكرة تخدم اهداف اجهزة الحكم الوطنية، والتي اقنعت الشعوب بعدم جدوى الثورة ضد الانظمة الفاسدة، المحمية جيدا بعلاقاتها الحميمة مع مصادر صنع القرار في الدول الكبرى، والتي ستعمل على حماية هذه الانظمة ضد أي عمل يستهدف ازاحتها عن السلطة.
لا انكر ان اسناد الانظمة العربية من الخارج كان واقعا ملموسا، غير ان المبالغة بهذا الاسناد هو ما سبب حالة اليأس والقنوط التي تحولت اليها الشعوب العربية، بحيث انطوت الى ممارسات اكثر خصوصية، ورفضت العمومية السياسية، ولجأت الى الدين كمنفذ اخير لتحرير شخصيتها المكبوتة.. ولم يكن جهاز السلطة غائبا عن مثل هذه التحولات، فعمل على الاستفادة منها مجددا.. واستعمل قضايا اقليمية، في حملات اعلامية منسقة لتبدو قضايا مصيرية، وركز الانظار حولها.. واستجابت الشعوب المغلوبة من جديد لهذه الخدعة، وانساقت مرة اخرى تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يعمل على الضد من الانا الاعلى، بل يستغل هذا الانا الاعلى لتقديم دفعة جديدة تنعش الفرد في لحظات الاندماج العضوي مع المجتمع.
لقد تعرض الدماغ العربي، خلال فترة النصف القرن الماضية، الى اكبر عملية غسل دماغ، بدأته قوى الاستعمار البائدة، واستأنفته بجدارة انظمة حكمه المحلية، وغذته الحرب الباردة بدون قصد. ولازالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الجهل السياسي الذي يطبق عليها من طرفي الحكومة المعمرة، ومعارضتها المُضَللة.. وفي محاولتها للتعلم ترتكب الكثير من الاخطاء، والتي اولها التسرع في التحليل وافتقار الرؤية الواضحة، والاعتماد على فئات محددة لرسم صورة الاحداث.. لقد كانت الشعوب العربية نتيجة الضغط الاعلامي المنسق الذي تعرضت له عاجزة في اغلب الاحيان عن تصور الاحداث بدون ان يكون الفرد العربي ذاته، او المجتمع العربي مركزا له. واذا اردنا ان نخرج المواطن العربي من متاهات الافكار القبلية، ونظريات المؤامرة المستولية على العقول العربية، فعلينا ان نحمله على التفكير في سياق الاحداث كاحتماليات وارجحيات، بدلا من التفكير فيها على اساس بديهيات ومسلمات.. وهذا يعني ان هناك مجالا لحدوث امور بغير اتفاق، وليس عليه ان يعتبرها موجهة ضده. فليس العرب، وان كانوا احيانا اثرياء، هم مركز الكون، الذي تدور حوله الافلاك.