var addthis_pub="tonyawad";
وقف قائد الجيوش يقاتل ببسالة فى المقدمة يذبّ عن جنده ويدفع عنهم شراً محدقاً منبته الأزل. حتى إذا انهزمت رؤوس الخطر وتضعضع بنيان العدو وشعر القائد العظيم بدنو الأجل، أشار إلى الجيش المنتصر فى خضم المعركة إلى أن يزحف نحو هذا الوادى ففيه السلامة والسلام.
فكان أول تابعيه هم حواريوه ممن التصقوا به يحاربون معه ودونه، وشق على جموع الجيش أن ترى وجهة القائد، فقد حال دونهم نقع المعركة وصليل السيوف وصهيل الخيول، إلا نفر ممن رأوا أسنة رماح أصحابه وعرفوهم من هيئتهم ومشيتهم فظنوا أنهم يتبعون القائد وساروا خلفهم تراودهم الظنون أن يكونوا قد ضلوا، فيرتقى الواحد منهم على أطراف أصابع قدميه ويمد عنقه صوب السماء، علّه يرى القائد رأى العين ثم ينزل مرة أخرى إلى أرض الواقع يمط شفتيه خائب الرجاء، ولكنهم يسيرون على كل حال.
وبقى فى أرض المعركة كثير رجال من أتباع القائد لم يعرفوا وجهته، فلا هم أدركوه، ولا هم أدركوا صحابته وتابعيه، ولا شاهدوا تابعى التابعين. وكان العدو قد هانت عليه المعركة بعد أن خارت قواه وغاب عن مغالبته مبتغاه من قائد وكبار جنود. وظنوا أن من بقى من جند القائد لا حول لهم ولا قوة ولا حاجة لهم فى حربهم، فقريباً سوف يغلبهم التيه ويفت عضدهم ويختلفوا فيما بينهم.
وصدق ظن العدو بهم فاختلف ما بقى من الجند فيما بينهم وانقسموا إلى أحزاب وفرق. وأقسمت كل فرقة أنها على حق، وأن القائد قد سار فى هذا الاتجاه أو ذاك. فهذه فرقة تقسم أنها سمعت القائد يحدد وجهته على الرغم من عظيم اللغط، وصليل السيوف، وصهيل الخيول، وصراخ الجرحى، وعويل النساء. ويخرج من بينهم من يروى عن القائد عشرة أسطر من الحديث!.
وتلك فرقة أخرى تقول: نقتفى أثره على الرمال فقدمه العظيمة لا تخطئها العين رغم سيل الدماء، وبضع آلاف من الأقدام فوق أرض المعركة! وتلك فرقة ثالثة أتباعها قليل تقول: نعمل عقولنا، ونتدبر تعاليم القائد العظيم قبل أن يرحل، ونحاول أن نفكر كما كان يفكر، ونفعل كما ثبت أنه فعل ونأتى بالألواح والقراطيس التى كان يتبعها القائد ولا يتبع غيرها، ففيها دلالات وعلامات على حسن الطريق وسلامة الاختيار. وفرق أخرى منها ما ينتقص من شأن سائر الفرق. ومنها ما يزعم أن اتباع أحد حواريى القائد كان أوجب من اتباع الآخرين على الرغم من أن كل الحواريين قد ذهبوا فى اتجاه واحد ولم تدركهم أبصار الفرق الباقية!.
واشتد القيظ فى أرض المعركة وامتلأ الهواء برائحة الموت وبدأ الأحزاب يتلاومون ويتناهرون فأعيتهم الحجة وطول الأمد، فأخذ يقاتل بعضهم بعضاً وسارت كل فرقة فى اتجاه غير عابئة بتوحيد صفوف الجيش، وكانت الفرقة الأولى التى تزعم أنها سمعت القائد قد عظمت عدداً وعدة، وظن أهلها أنهم قد وحّدوا صفوف الجيش وأنهم أصحاب الدعوة الحق فإن لم يتّبعوا فقد هلك وخان من خالفهم، وحق عليه القتل. وساروا خلف رواتهم الذين يؤمن أحدهم أن القائد العظيم قد قال بصوت لا تخطئه أذناه: "سيروا جهة الشرق" وأقسم آخر أن القائد كان لا يسير إلا غرباً والبعض قال جنوباً، والبعض قال شمالاً، فانقسمت الفرقة على نفسها وتشرذمت إلى فرق أصغر. ومالت كل فرقة إلى استقطاب فرق أخرى، فسلكت سبلاً شتى كان نتيجتها أن انقسمت هى بدورها على نفسها إلى شراذم أصغر.. وهكذا. والحال فى سائر الفرق الأولى لم تكن أفضل.
وبينما تتقدم كل الفرق وما انشق عنها كل فى اتجاه، ظن أصحاب فرقة الرواة وما انشق عليها من فرق أنهم قد ضلوا سبلهم، فاتفقوا على غير اتفاق أنهم لابد تائهون وأن السبيل إلى النجاة لن يكون إلا بالعودة إلى أرض المعركة من جديد، لأنهم سوف يلقون قائدهم وأصحابه لا محالة. وعادوا أدراجهم وكلما قابلوا شرذمة من الناس ساقوهم معهم عنوة إلى أرض المعركة القديمة. ومنهم من قطع آلاف الأميال وأهلك فى سبيل ما يحسبه طريق الحق المال والعيال، ومنهم من تدبر أمره وأدرك أنه يمكن أن يحيا على تعاليم القائد دونما إدراكه وملاحقته، خاصة وقد انتهت الحرب ولم يبق إلا اقتتال الفرق التائهة. إلا أن بأس فرقة الرواة كان شديداً فأعادوا الناس قسراً وقهراً إلى أرض القتال، وعندها لم يجدوا القائد وأصحابه، ولم يجدوا إلا الموت والخراب والصقور تنهش أجساد ذويهم وأعدائهم ممن قضوا فى الحرب. فماذا يفعلون؟
قال أمثلهم طريقة وأكثرهم تبعاً علينا أن نجد العدو فنعيد تمثيل المعركة بكل ما حدث فيها، وأن ننتبه هذه المرة إلى ما لم ندركه من رحيل القائد والتابعين وتابعيهم. وكان العدو قد غادر البلاد وأقام مدناً غير المدن وأحيا الفساد فى البر البحر ولم يجد من يردعه بعد رحيل القائد واتباعه. فأخذت فرقة الرواة تستعدى الناس من أهل الجوار وتستنهض الهمم لمواجهة الأعداء، وكان العدو على هوانه وقلة عدده أشد بأساً من تلك الشراذم فلم تكن المعركة تسير سيرتها الأولى يوم أن كانت الصفوف واحدة وكان القائد فى المقدمة، فلحقت بالشراذم الهزيمة تلو الأخرى.
ولبثوا فى أرض المعركة وأقاموا بها فكانت دنياهم كالقبور فوق أشلاء الموتى، وعافت أنفسهم الزاد ولم يعد لهم فى الحياة سبيل، إلا أن يتناسلوا كى يستعدوا للمعركة التالية، علّها تكون المعركة التى ترشدهم إلى وجهة القائد. وعلى كثرتهم فقد كانوا غثاءً كغثاء السيل، فلا هم وحّدوا الصفوف ولا هم أعدوا للحرب عدتها. وقد كان الناس من حولهم يطوّرون أداوت الحرب وآلاتها فتكون الهزيمة أنكر من سابقتها.
ولما لم يجد الرواة بدّاً من الاعتراف بالهزيمة ومرارة العيش فى تلك القبور أخذوا يرغّبون الشراذم فى الموت وأنه آت لا محالة وأنه خير لهم أن يموتوا فى كبد ومعاناة تتبع القائد، من أن يحيوا تلك الحياة الدنيا الدنيئة معناً ولفظاً! ولما استيئسوا من بعض الناس ممن ظنوا أن الحياة أحق بالعيش من تلك الدعوة القبورية، وجدوا أن إعادة تمثيل المعركة يمكن أن يكون بغير ملاقاة العدو ذى البأس والآلة العسكرية المخيفة، وأن قتال هذا النفر من الفرق المارقة أوجب وأكثر تعبيراً عن حال المعركة يوم كان القائد بين ظاهريهم، لا من حيث طرفى الخير والشر، ولكن من حيث كفاءة الطرفين فى القتال، فكل الشراذم فى ذيل الأمم، وكلهم قعدوا فى باحة الحرب وكلهم من سكنى القبور. وهكذا لم تزل رحى الحرب دائرة بين الرواة وتابعيهم من جهة وبين أصحاب العقل ممن أرادوا الحياة على نهج قائدهم وليس الموت فى سبيل استرجاعه، لأنه لن يعود.. لن يعود