منذ وعينا على الدنيا، نشعر بالسعادة يوم شم النسيم، نهاية الشتاء واقتراب الصيف، نصحو مبكراً جداً، نلون البيض، ونقطف الزهور، ونرى الدنيا ربيع. اعتاد المصريون حول النيل أن يحملوا طعامهم وشرابهم لينطلقوا لشواطئ النيل، يشعرون بالبهجة والسعادة، عائلات تحتفل فى قوارب أو مراكب شراعية، والنيل حنون لم يتلوث بعد، وحوله جزر تمتلئ بالورد والفل، واعتاد الفلاحون فى بحرى والصعيد أن يسموا الشهور بأسمائها القبطية، وعندما يأتى برمهات بعد أمشير، يعلن المصريون فرحهم بالخير.. قمح وعدس وترمس وبصل، يرددون أمثالهم نسبة لشهورهم المصرية «برمهات روح الغيط وهات.. السبع حاجات.. قمحات وفولات وعدسات وترمسات وتومات وبصلات.. عاش النصرانى ومات وماكلش الجبنة فى برمهات»، برمهات هو أحب الشهور للفلاح المصرى لأنه علامة الخير الوفير، وهو أيضا الشهر الذى يشهد الصوم الأربعينى المقدس للمسيحيين، والحرارة الصغيرة التى تمنح القمح نضوجه وتختمه بخاتم الخير.
لم تتوقف أمثال المصريين، فقد كانوا يقولون عن كيهك «كياك صباحك مساك.. تقوم من فطورك تحضر عشاك»، عندما يكون النهار أقصر نهارات السنة. نعود إلى برمهات، ويتلوه «برمودة» حيث شم النسيم. المصرى كان يحتفل بشم النسيم، بعد أيام الآحاد والإثنين التى تتوالى فيها أعياد المسيحيين المختلفة..
حد الزعف أو «الخوص» كما يسميه المصريون، وسبت النور كانت النساء يكتحلن، يتلوه عيد القيامة، وشم النسيم، كانت هذه الأيام تبدو أعياداً مصرية لها شكلها وطابعها الممتد من أيام أجدادنا المصريين القدماء، حيث النيل يمثل عاملاً مشتركا يجعل الأعياد المصرية ذات طابع خاص، يتزامن مع أعياد المسيحيين ويحتفل به عموم المصريين، ظلت مصر هكذا قرونا طويلة، مثلما كان شهر رمضان يغير من يوميات المسيحيين الذين يتحاشون جرح مشاعر الصائمين، وكثيرا ماكان المسيحيون الكبار يتشددون فى منع أطفالهم من الأكل أمام إخوانهم الصائمين، ولم يشعر المصرى بمشكلة وهو يعدد أسماء الشهور المصرية الثلاثة عشر «توت - بابه - هاتور - كيهك - طوبة - أمشير - برمهات - برمودة - بشنس - بؤونة - أبيب - مسرى نسىء»، أشهر الزرع والحصاد والرى، والبرد والحر، والملابس والأعياد، ووفاء النيل، وأيام الفيضان والجفاف.
لم يكن فى الأمر نفاق أو ادعاء، العقيدة مصانة، والاحتفال مشترك، ولم يسأل أحد عما إذا كان شم النسيم حراما أم حلالا، مثلما لم يسأل مصرى هل مولد النبى مكروه أم بدعة، فتاوى تحريم شم النسيم صدرت من دول صحراوية، لم تعرف النيل وحنيته وقدرته على توحيد القلوب، وإعادة صياغة العيد والفرح والمهرجان، المصريون كانوا دائما يصنعون البهجة الصغيرة، دون أن يتوقف كل منهم ليفتش فى قلب الآخر عن اعتقاده، لأن المعاملة كانت توفر على الناس هذه الأسئلة، و«الدين المعاملة»، كما ينص القرآن الكريم، والمعاملات تشغل ثلاثة أرباع العقائد، ومع ذلك تركها أعداء البهجة، لينسجوا من نصوص التحريم سداً منيعا.
ويصفوا المصريين بأنهم وثنيون أو خارجون بفتاوى «التكدير العام»، التى تستند إلى مرجعيات صحراوية، أو جبلية، من دول لم تعرف النيل، ولم تعرف أواصر المواطنة التى نسجت بين بشر حملوا فى قلوبهم إيمانا يخاطب الله دون أن يصادر الآخرين.
يحتفل بشم النسيم ومولد النبى، ليفصل بين كونه عيدا لأصحاب دين، ومهرجانا لأصحاب الدين الآخر، لم نخجل من التنكيت البرىء المتبادل، الذى قد يتطرق برقة إلى معتقدات الآخرين.
ما الذى يضير أصحاب فتاوى التكدير إذا خرج الناس ليشموا النسيم أو ركبوا مركبا على النيل، وأكلوا البيض الملون، والسمك مع الملانة والليمون والخس، ضحكوا ونسوا همومهم، أو صنعوا عرائس وأحصنة وأسودا من السكر فى مولد النبى.. أو احتفلوا بعيد الأم وأعياد الحب، وأيام الفرح.. وابتهجوا وشكروا الله الرحمن الرحيم الحليم على نعمه؟
كل مصرى يحمل معه تراثا من الذكريات عن احتفالات ومهرجانات، البهجة، التى يسعى البعض لمصادرتها، بدعوى مخالفة الدين، مع أن الله ما أنزل الأديان إلا من أجل إسعاد البشر، وترقية وحشيتهم، وجعلهم أكثر إنسانية، فلنحتفل بشم النسيم وحد الزعف ومولد النبى، نصلى على محمد والمسيح، ونحمد الله على ما يمنحنا من بهجة.