معنى الوسيلة والتوسُّل :
جاء في مختار الصحاح : الوسيلة ما يُتقرب به إلى الغَيْر، والجمع: الوسيل والوسائل والتوسل واحد، يقال : وسَّل فلان " بالتشديد " إلى ربه وسيلة، وتوسَّل إليه بوسيلة إذا تقرَّب إليه بعمل.
وجاء في القاموس المحيط : الوسيلة: المنزلة عند الملك، وتوسَّل إلى الله تعالى عمل عملاً تقرَّب به إليه .
وفي القرآن الكريم جاء لفظ الوسيلة في موضعين، أولهما: في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا الله وابْتَغُوا إلَيْه الوَسِيلة ) ( المائدة : 35 )، ثانيهما: في قوله تعالى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُون يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِم الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) ( الإسراء : 57 ) كما جاء في السنة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليّ، فإنه مَن صلَّى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة " .
أما المراد منها في الحديث فواضح؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي بيَّنه، لكن المراد بها في الآيتين يتردَّد بين أمرين، أولهما: القُرْبَة أو الطاعة التي يتوصل بها الإنسان إلى ما يريد، وأفضل ما يريده المؤمن هو رضوان الله تعالى، وثانيهما: الغاية أو المنزلة التي يُتَوَصَّل إليها بالقُرْبة أو الطاعة .
جاء في تفسير القرطبي للآية الأولى : الوسيلة: فعيلة مِن توسَّلت إليه أي تقربت، قال عنترة :
إن الرجال لهم إليكِ وسيلةٌ أن يأخذوكِ، تكحَّلي وتخضَّبي
وعليه فالوسيلة هي القُرْبة والعمل، كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسُّديّ وغيرهم . وجاء في تفسيره للآية الثانية أن معناها : يطلبون من الله الزُّلْفة والقُرْبَة، ويتضرعون إلى الله في طلب الجنة وهي الوسيلة. وعليه فالوسيلة هي الغاية المطلوبة من العمل .
وذكر ابن الأثير في " النهاية " بعد ذكر حديث مسلم المتقدِّم هذه المعاني الثلاثة فقال : الوسيلة في الأصل ما يُتَوَصَّل به إلى الشيء ويُتقربُ به، والمراد في الحديث القُرْبُ من الله تعالى، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هي منزلة من منازل الجنة، كما جاء في الحديث .
ومن هنا نرى أن الوسيلة قد يُراد بها الطريقة الموصِّلة إلى الغاية، أو الغاية نفسها بصرف النظر عن تحديدها أو الغاية الخاصة المحدَّدة، وهي منزلة في الجنة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في هذا الإطلاق، إنما وقع الخلاف في المعنى الأول عند تحديد الطريقة التي يَتوسَّل بها الإنسان إلى رضوان الله تعالى، ومع ذلك لا يشكُّ أحد في أن هذه الطريقة ـ بشكل إجمالي ـ تقوم على أمرين أساسين، أولهما: الإيمان، وثانيهما: التقوى أو العمل الصالح، كما قال تعالى ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) ( الكهف : 107 ) وقال ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْييَّنَّه حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزيَّنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونُ ) ( النحل : 97 ) لكن الخلاف يدور حول بعض الألفاظ والعبارات المتعلقة بالإيمان والتقوى، نذكر أهمها فيما يلي :
1 ـ التوسُّل إلى الله بالنبي والأنبياء :
لا شك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيلتنا إلى الله، من حيث إنه مُعَلِّمٌ ومُرْشِد، فطاعته وحبُّه أساسه حبُّ الله للعبد، قال تعالى ( قُلْ إِنْ ُكْنُتْم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ ) ( آل عمران: 31 )، وقال (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) ( النساء : 80 )، وكذلك دعاؤه لنا من وسائل القُرْب من الله، وأيضًا شفاعته العُظْمى يوم القيامة، وشفاعته الخاصة لبعض أمته، والذين يسألون له الوسيلة بعد إجابة المُؤَذِّن، كما سبق في الحديث الذي رواه مسلم . ولا يختلف في ذلك أحد من المسلمين، إنَّما الخلاف في قول بعض الناس : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أن تغفر لي، أو أستشفع به إليك وهذا القول يحتمل توجيهين :
الأول: التوسل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليدعوَ له، وهذا لا يشكُّ أحد في جوازه وبخاصة في حياته، فقد طلب الصحابة منه الدعاء فدعا لهم وأُجيب دعاؤه . روى البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب على المِنبر يوم الجمعة وقال : يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا . فدعا النبي فنزل المطر مدة أسبوع فقال الأعرابي : تهدَّم البناء وغرِق المال، فادع الله لنا . فدعا فقال " اللهم حَوالَيْنا ولا علينا " فانزاح السحاب .
وجاء في البخاري عن أنس أيضًا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا قَحَطُوا استسقى بالعباس فقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبْنا توسَّلنا إليك بنبيك فتُسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، فيُسقَوْن . فكان العباس يدعو وهم يُؤَمِّنون لدعائه فَسُقُوا .
الثاني : التوسُّل بذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بمعنى أن يدعو الداعي ربه راجيًا الإجابة إكرامًا للنبي لمنزلته عنده . ومِثْل النبي في ذلك غيره من الأنبياء، فيقول الداعي : أسألك اللهم بنبيك، أو بجاه نبيك أن تغفر لي .
وهذه العبارة تحتمل أمرين :
(ا) أحدهما: القَسَم وأداة القَسَم هي الباء مثل : بالله أن تجلس أو تفعل كذا، على معنى أُقسم بالله . والجمهور يمنعون القسم بغير الله يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان حالفًا فلْيحلف بالله أو ليَصمُت " . وأجاز أحمد بن حنبل في رواية عنه القسَم بالأنبياء .
(ب) وثانيهما عدم القسم، إذا أُريد بالباء السببية، والمعنى أسألُك يا الله بسبب نبيك أن تُكْرِمَني، فإن كان المراد : بسبب الإيمان به وحبُّه وطاعته فلا غُبار عليه؛ لأنه توسُّل بعمله هو، وهو قُرْبَة إلى الله تعالى . وإن كان المراد : بسبب ذاته، أو بسبب منزلته من الله ووجاهته عنده، فهذا هو الذي احتدم الخلاف حوله بين العلماء .
ففريق ينكره؛ لأن مجرد الجاه لا يُعطي الشفاعة، وعلى رأس هذا الفريق ابن تيمية، وقد ألَّف في ذلك رسالة خاصة، حاول فيها أن يرُدَّ ما جاء عن الصحابة في جوازه، إما بالطعن في السند بالضعف، أو الوقف على الصحابة، أو على مَن ليس قوله أو فعله حُجَّة، وإما بالتأويل، فيؤوِّل ما ثَبت منه على أنه توسُّل بدعاء النبي أو دعاء غيره، كما حدث في استسقاء عمر بدعاء العباس، وكما حدث في حديث الأعمى، وسيأتي بعدُ، ومنه توسُّل الناس في الموقف يوم القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم عند الله، أي ليدعوا الله لهم، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو، بعد أن يرفع رأسه من السجود تحت العرش، فيقول له ربه : ارفع رأسك وسلْ تُعْطَ، واشفعْ تُشفَّع . فيقول: يا رب أمتي. وفريق يُثْبِتُه، ومنهم العز بن عبد السلام الذي قال في فتاويه : لا يجوز أن يُتوسَّل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن صحَّ حديث الأعمى .
واستدل هذا الفريق بما أُثر في ذلك، ومنه :
1 ـ كان أهل الكتاب بنو قريظة والنضير يتوسلون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وجوده لينصرهم الله على أعدائهم . قال تعالى في اليهود ( ولمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِين كَفَرُوا ) ( البقرة : 89 )، فكانوا إذا قاتلوا المشركين قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، فينصرهم الله .
2 ـ عن عثمان بن حُنيف أن ضريرًا طلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعوَ الله له بالعافية، فأمره أن يتوضأ فيُحْسِن الوضوء ويدعو بقوله " اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجَّهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ " وفي رواية " فإن كان لكَ حاجة فمثل ذلك " قال عثمان : فواللهِ ما تفرَّق بنا المجلس حتى دخل علينا بصيرًا كأنه لم يكن به ضُر .
وجاء أن عثمان بن حُنيف أرشد رجلاً إلى ذلك فقضى له عثمان بن عفان حاجته . ويَردُّ الفريق المانع بأن الشفاء ليس بهذا الدعاء، وإنما بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي وشفاعته، ولو توسَّل غيرُه من العُمْيَان بتوسُّل الأعمى بدعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله . لكن أجاب هؤلاء بأنه لا مانع أبدًا أن يكون الشفاء بدعاء الأعمى لربه مسْتشفِعًا بالنبي، ولذلك قال : اللهم فشفِّعه فيَّ . وقد كان الأعمى صادقًا في الدعاء خاشعًا فاستجاب الله له، ولو صدقَ غَيْرُه وخشع في دعائه ما كان هناك مانع من الاستجابة . وما دام الأمر فيه احتمال فلا يتحتَّم المنع .
3 ـ علَّم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يقول " اللهم إني أسألك بمحمد نبيِّك وبإبراهيم خليلك ..." ورُدَّ عليه بأنه حديث غير صحيح .
2 ـ التوسُّل إلى الله بحق النبي والأنبياء :
جعل بعض العلماء هذه العبارة كالتوسُّل بذات النبي والأنبياء وجاهِهِم ومنزلتهم عند الله، فيقال فيها ما قيل من قبل .
ففريق يُنكره كابن تيمية ومن معه . ومَن قبلهم أبو حنيفة وأصحابه حيث قالوا : لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال القَدوري في شرح الكَرْخِيّ في باب الكراهة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأَكْره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف : بمعقد العزِّ من عرشه هو الله، فلا أَكره هذا، وأكره أن يقول : بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمَشْعَرِ الحرام . قال القدوري المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا.