فارق كبير بين رجل الأعمال ورجل السياسة.. الأول يحرص على تنمية ثروته بكافة الوسائل ولا ينظر سوى لمصالحه الخاصة، أما الثانى يجب أن يلتزم بالخط العام لحكومته ويضبط كل تصرفاته على إيقاع المصلحة العامة، لأن أى خطأ ربما يكلفه سمعته السياسية ومنصبه الوزارى.
النموذج على ما أقصد هو الدكتور حاتم الجبلى، الذى انتقل من شريحة رجال المال والأعمال إلى فئة رجال السلطة والسياسة بعد توليه وزارة الصحة فى حكومة الدكتور أحمد نظيف الثانية، وكادت زلة عابرة من لسانه أن "تنسف" العلاقات المصرية الليبية مؤخراً.
الحكاية بدأت فى منتصف أبريل خلال اجتماع الدكتور الجبلى مع أعضاء لجنة الصحة فى مجلس الشورى.. الوزير استعرض أمام الأعضاء قصص التسيب والفوضى فى المستشفيات العامة، وقال لهم بلهجة ساخرة "لو كان بإمكانى لنقلت مديرى تلك المستشفيات إلى ليبيا".. الوزير قال جملته بعفوية شديدة دون أن يقدر عواقبها.. المفاجأة أن كافة الصحف والمواقع الإخبارية نقلت نص ما قاله فى اليوم التالى.
المفارقة أنه فى أثناء اجتماع الوزير مع النواب تحت قبة الشورى كان يقف حوالى 1400 طبيب مصرى أمام أبواب السفارة الليبية فى حى الزمالك انتظاراً لإنهاء إجراءات تعاقداتهم للعمل فى وزارة الصحة الليبية ضمن برنامج ضخم يقوم على الاستعانة بالكوادر المصرية لإدارة المستشفيات الليبية.. حقيقة لا أعرف هل الوزير كان على علم بتعاقد ليبيا مع هذا العدد الكبير من الأطباء المصريين أم لا!! لكن إذا كان يعلم وتعمد "السخرية" من ليبيا بأن ينقل إليها كل طبيب "مهمل" فهذه كارثة، وإذا كان الوزير لا يعلم بقصة تعاقد هذا العدد من الأطباء للعمل فى ليبيا فهذه مصيبة أخرى، لأن ليبيا أو غيرها ليست مضطرة للتعاقد مع أطباء فاشلين باعتراف وزيرهم المختص.
المسئولون بالسفارة الليبية وبناءً على ما نشرته الصحف تعمدوا إرجاء التعاقد مع الأطباء بطريقة دبلوماسية.. السفير الليبى بالقاهرة حاول الاتصال بمكتب الدكتور الجبلى لاستطلاع الموقف والتأكد من الوزير شخصياً، هل قال هذا الكلام بالفعل أم أن الصحف حرفت كلامه.. المفاجأة أن الوزير لم يرد على اتصال السفير، الذى ترك بدوره أرقام تليفونه لدى مدير مكتبه، ومع ذلك لم يكلف الوزير نفسه عناء الرد على مكالمة السفير التى كانت كفيلة بتوضيح الأمر ومحو أى سوء ظن!!
النتيجة كانت تعثر إتمام التعاقدات مع الأطباء بسبب "تصريح " الوزير.. أغلب الأطباء لا يعرفون أسباب تعطيل سفرهم بالرغم من أن كل الإجراءات كانت تسير بطريقة طبيعية.. هذه الأزمة كادت أن تطيح بأحلام ألف وأربعمائة أسرة قبلت الغربة، وتحملت عناء العيش فى وطن بديل أملاً فى تحسين أوضاعهم المالية.. هنا تدخل أحمد قذاف الدم منسق العلاقات المصرية الليبية، وأصر على إتمام التعاقدات، وهدأ من ثورة المسئولين الغاضبين فى ليبيا وأقنعهم بأن هؤلاء الأطباء لا ذنب لهم، ولا علاقة لهم بـ"زلة" عابرة للوزير.. جهود قذاف الدم نجحت فى تجاوز الأزمة، بينما وزير الصحة مازال لا يعلم بمدى الدمار، الذى كاد أن يترتب على تصريحه "الطائش" فى مجلس الشورى.
اللافت أن الدكتور حاتم الجبلى قبل أن يصبح وزيراً للصحة كان شديد الحرص على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع السلطات الليبية.. هذه العلاقات جرى ترجمتها إلى "صفقة" تم بموجبها تعاقد الحكومة الليبية لعلاج جميع مواطنيها فى المستشفى الشهير، الذى يملكه الوزير فى مدينة السادس من أكتوبر، طبعا التحويلات تتم بالعملة الصعبة.. الغريب أن موقف الدكتور الجبلى كصاحب مستشفى جاء متناقضاً مع موقفه كوزير، رغم أن نجاحه كرجل أعمال يجنى ثماره بمفرده، بينما فشله كوزير يؤثر سلباً على أوضاع مئات الأطباء وربما يدفع ثمنه آلاف المواطنين البسطاء أيضاً