قبل نكسة 67، كنا ننظر إلى إسرائيل على أنها حشرة سندوسها بأقدامنا، قبل أن نلقى بها فى البحر، كما قال جمال عبد الناصر.. وبعد الهزيمة أفقنا على مأساة جهلنا بإمكانات هذا العدو وقوته وجبروته وطبيعة علاقاته بالقوى العظمى.. فكانت دعوة المفكر والكاتب الصحفى الراحل أحمد بهاء الدين "اعرف عدوك"، وكتابه المهم عن إسرائيل من الداخل وعلاقاتها بالخارج هى بوابة الدخول إلى عقلية الصهاينة، ومحاولة فهم كيف يفكرون، وإلى ماذا يهدفون ويخططون.
وبعد بهاء، جاء أستاذ الشئون العبرية إبراهيم البحراوى ليطلق دعوة مماثلة للغوص فى العقلية اليهودية ومعرفة تفاصيل دقيقة عن العدو الذى نواجهه .. وأصبح له صفحة ثابتة فى جريدة الأخبار تحت هذا العنوان "اعرف عدوك".. ثم جاء نصر أكتوبر 73 ليؤكد استفادتنا الكبيرة، لأول مرة خلال الصراع العربى الإسرائيلى الطويل من هذا التوجه، لدراسة عقلية وسيكولوجية اليهود والصهاينة، ومعرفة عاداتهم وممارساتهم الحياتية، والاستفادة من ذلك فى خداعهم ومفاجآتهم بالهجوم عليهم فى "يوم الغفران". وبعدها سنوات قليلة تحول العدو فجأة إلى جار، وأحيانا صديق وشريك فى عمليات التنمية، وأصبح الخبراء الإسرائيليون يأتون إلى مصر ليعلمونا فنون الزراعة التى علمها أجدادنا للعالم، ثم أصبحت مواقفنا فى كثير من القضايا شبه واحدة ومصالحنا متقاربة وأعداؤنا أيضا مشتركون!.
وظلت الصحافة العربية منذ النكسة وحتى الآن تهتم بتغطية أهم الاحداث السياسية هناك، وخصوصا الانتخابات، وانضم التليفزيون بقنواته الرسمية والفضائية الخاصة إلى زفة الاهتمام الإعلامى المكثف بتغطية صراعات الأحزاب الإسرائيلية وفضائح قادة إسرائيل، والتربيطات الانتخابية ولعبة الشد والجذب بين أحزاب اليسار واليمين والوسط، وفاق الاهتمام العربى بالشئون الإسرائيلية، حتى الانتخابات الأمريكية، التى اعتدنا أن نتابع أخبارها قبلها بشهور طويلة، وكأنها تخصنا أو تجرى فى بلادنا.. ولعبت وكالات الأنباء الأجنبية التى ننقل عنها أخبارنا وتغطياتنا الصحفية دورا كبيرا فى إجبارنا على استهلاك هذه المواد الصحفية والتركيز عليها رغما عن أنوفنا، فليس لدينا شيئا بديلا نقدمه للقارئ، ولا شبكة مراسلين واسعة لنا فى كل مكان، وليست لدينا انتخابات حقيقية أو صراعات بالمعنى السياسى المعروف حتى نهتم بها ونغطى أخبارها.. ومن هنا جاء اهتمامنا القسرى بالانتخابات الإسرائيلية وصراع اليمين واليسار وليكود وكاديما وإسرائيل بيتنا.. وأصبحنا نعرف أدق التفاصيل عن هذه الأحزاب فى الوقت الذى يجهل فيه قطاع كبير منا أسماء 27 حزبا مصرح لها بالعمل السياسى فى مصر، ولا نعرف منها سوى ثلاثة أو أربعة أحزاب على الأكثر، ومعظم معلوماتنا عنها هى ما تنشره الصحف عن صراعات الكراسى فيها، والدعاوى القضائية التى تتداولها المحاكم لحسم النزاع على رئاسة هذا الحزب أو ذاك!.
والسؤال الذى يفرض نفسه الآن..هل استفدنا شيئا ملموسا من فرط اهتمامنا المكثف وغير العادى بما يدور داخل إسرائيل؟!..وهل تطورت وتغيرت العقلية العربية بفضل تلك المعلومات؟.. وهل أصبحنا أكثر فهما وقدرة على التعامل مع قادة إسرائيل على مختلف أطيافهم السياسية وخلفياتهم الثقافية ؟.. وهل نستفيد فعلا من نشر وترجمة السيل الجارف من الأخبار والتقارير عن المجتمع الإسرائيلى..أشك؟