كثر الحديث هذه الأيام عن البؤر الاستيطانية الإسرائيلية، حيث طالب الرئيس أوباما بضرورة إزالة هذه البؤر، وكذلك تجميد البناء فى المستوطنات، ووافق نتانياهو من ناحيته على مبدأ إزالة البؤر الاستيطانية ورفض الالتزام بوقف البناء فى المستوطنات بحجة النمو الطبيعى لسكان هذه المستوطنات وضرورة الاستجابة للاحتياجات الضرورية لهم. الموافقة كانت بمثابة استغلال من نتانياهو لهذا الطلب الأمريكى حيث ربط إزالة هذه البؤر بالاستعداد الأمريكى لمساعدة إسرائيل فى وقف البرنامج النووى الإيرانى، واستمرار العلاقات الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وبالنظر أيضا إلى الظروف الدولية التى اختلفت عن الفترة الأولى لرئاسة نتانياهو من الفترة1996– 1999 وبدافع القلق على مستقبل الدولة الإسرائيلية، أكد نتانياهو فى جلسة اجتماع كتلة الليكود يوم 25/5، أنه يجب تطويع الأفضليات الإسرائيلية للمطالب الأمريكية والدولية. لذلك طالب نتانياهو كتلة الليكود بالموافقة على إخلاء تسعة بؤر استيطانية حتى لا يتم المساس أو الضرر بالجهود الرامية لإيقاف برنامج إيران النووى وحفاظا على العلاقات مع واشنطن. موقف نتانياهو يعكس انطباعا بوجود اتفاق مع واشنطن على منع إيران من امتلاك السلاح النووى، صحيح أن واشنطن ترفض امتلاك إيران لهذا السلاح، إلا أن هناك جهودا دبلوماسية جارية الآن ولا يمكن إغفالها بين واشنطن وطهران. على أرض الواقع، إزالة البؤر الاستيطانية ماهى إلا خدعة هندسها نتانياهو لإرضاء أمريكا والمجتمع الدولى للحظة مؤقتة يكسب فيها الوقت ويبعد الأنظار عن الخروقات الإسرائيلية داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة. فبالرغم من تعرض وزير الدفاع إيهود باراك لهجوم ضارى من أحزاب اليمين والمستوطنين بسبب دعوته لإزالة البؤر الاستيطانية، أيد نتانياهو فى حديثه لهذه الدعوة دعما لباراك خاصة قبل سفره إلى واشنطن الأسبوع المقبل، وأكد نتانياهو أنه وباراك يعملان بتنسيق تام فى هذا الشأن.
كما أن وسائل الإعلام تعطى أهمية استثنائية لعملية إخلاء هذه البؤر الاستيطانية، والحقيقة هى وجود اتفاق غير مكتوب بين المستوطنين والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، فعند أى بوادر ضغط أمريكى أو دولى تصدر الأوامر لقوات الأمن والشرطة بضرورة إزالة البؤر، وفورا تبدأ القوات بالعمل ويتم اختيار بؤرة صغيرة أو خالية، وتنهال عليها القوات وتهدم أربع أو خمس كرافانات وخيمة أو اثنتين وينتهى الأمر بأخبار على شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى وكأن هناك حملة كبيرة لإزالة المستوطنات استجابة للضغوط الدولية والأمريكية لكن بعد ساعات أو يوم على الأكثر يعود المستوطنون إلى نفس المكان ويتم البناء مرة أخرى، وفورا تعود الكهرباء والماء إليهم من أقرب مستوطنة فى انتظار الحملة القادمة، وبذلك ترضى الولايات المتحدة والمجتمع الدولى، ويتم إبعاد أنظار الجميع عن عملية البناء المستمرة فى المستوطنات العديدة فى الضفة الغربية.
منذ عام 2002 ومنذ ما قبل خارطة الطريق قامت إسرائيل بتوسيع مشروعها الاستيطانى، فقد تم بناء العديد من البؤر الاستيطانية الجديدة، أما تلك القديمة والتى كان يجب إزالتها فقد أصبحت مستوطنات "قانونية". أما النمو الطبيعى الذى بحجته رفض نتانياهو الالتزام بوقف البناء فى المستوطنات، فهو الغطاء السياسى الذى يلجأ إليه نتانياهو ليبرر رفضه وعدم التزامه، فكل مستوطنة وبحجة هذا النمو تقوم بالاستيلاء على جبل أو تلة أو أراض زراعية تابعة للفلسطينيين وتشق الطرق إليها فورا ويتم توصيل الماء والكهرباء والخدمات تتوفر كل هذا بحجة النمو الطبيعى، فهذه ليست مستوطنة جديدة بل هى نمو طبيعى حسب الرؤية الإسرائيلية. هناك أهداف عدة للحركة الاستيطانية المتعصبة أولها خلق أوراق تفاوضية جديدة لتقوية الجانب الإسرائيلى حيث أن هذه الأوراق ممكن التنازل عنها مقابل التمسك بالقضايا الأساسية المتعلقة بأمن إسرائيل ووجودها. الهدف الثانى هو إنشاء أمر واقع على الأرض، يجعل من الصعب أن لم يكن من المستحيل إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة، أو حتى بعد قليل من المستحيل إقامة كانتونات فلسطينية إذا استمرت وتيرة البناء والاستيلاء على الأراضى بهذا الشكل المسعور. المستوطنون يتبعون عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف، فمثلا استمرار التوسع وبناء مدن كبيرة مثل ارئييل ومعاليه ادوميم وكريات، أربع فى قلب الأراضى الفلسطينية، مما يجعل من أى عملية إخلاء مستحيلة أو أشبه بالكابوس المستمر، أو تصعيد المطالب التمويلية والتعويضية، لدرجة أن إخلاء غوش قطيف من قطاع غزة أى حوالى 1750 منزلا، كانت الميزانية من أجل تنفيذه 3.5 مليار شيكل، ثم ارتفعت إلى 7 مليارات شيكل ولم تنته بعد، أى أن إخلاء 25 ألف منزل فى الضفة الغربية ستكلف أكثر من مائة مليار شيكل!.
أما تصوير وزير الدفاع باراك بأنه العدو الأول للمستوطنين فهذا كلام مغلوط تماما، باراك لم يخل أى بؤرة استيطانية منذ أن دخل الحياة السياسية حتى الآن، وهو يتفاخر بذلك، ورغم الغطاء السياسى الذى قدمه له إيهود أولمرت إلا أنه رفض ولم ينفذ، فهل سيأتى الآن وفى ظل حكومة يمينية ورئيس حكومة مثل نتانياهو، ويبدأ فى إزالة البؤر وتجميد الاستيطان؟! . المستوطنون أو التيار الاستيطانى يعتبر أقلية فى إسرائيل، ولكنها أقلية منظمة جيدا تنهال عليها التبرعات من جميع أنحاء العالم، خاصة من التنظيمات اليهودية اليمينية فى الولايات المتحدة، كما أنهم يملكون وسائل إعلامهم الخاصة، فلديهم قناة تلفزيونية فضائية "القناة 7" وصحف ومواقع إلكترونية عدا عن مؤيديهم العاملين فى الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، لكل هذا وبسبب قوتهم الانتخابية يستطيعون فرض مواقفهم على الأغلبية، التى تنصاع وتخضع خوفا من حملاتهم وتصرفاتهم العنيفة. الآن يخطط المستوطنون لحملة إعلامية ضد نية الحكومة فى إخلاء البؤر الاستيطانية، ويخططون لإغلاق الشوارع والتظاهر أمام المكاتب الحكومية ومنازل الوزراء، كما أعلنت منظمة يشع عن نيتها بناء بؤرتين استيطانيتين بدلا من كل بؤرة يتم هدمها، وبدأوا فى توجيه الضغوط إلى أحزاب مثل شاس وإسرائيل بيتنا لإيقاف هذه الخطط الحكومية.
حقيقية، تصوير البؤر الاستيطانية وكأنها مشكلة عويصة، وأن الحكومة الإسرائيلية ستبذل جهودا مكثفة وصعبة من أجل إخلائها ما هو إلا ذر للرماد فى العيون، فما زال من الممكن هدمها وبناءها من جديد وهلم جرا. المشكلة الحقيقية هى النتيجة من الاستمرار فى بناء المستوطنات التى تستمر فى تقطيع أوصال الضفة الغربية ومصادرة الأراضى التابعة للفلسطينيين بحجة النمو الطبيعى، هذه المشكلة التى يجب وضع حل لها قبل أن يصبح حل الدولتين أشبه بحلم من الصعب تحقيقه. ودون دعم أمريكى ودولى وعربى، لا يبدو أن الحكومة الفلسطينية الحالية قادرة على وضع حد لهذه المشكلة، كما أن المستوطنين يتمتعون بدعم المؤسسة العسكرية التى تتولى المسئولية عن الضفة الغربية وقطاع غزة، فهذه المؤسسة هى التى توفر لهم الخدمات والماء والكهرباء، عدا عن الحراسة العسكرية التى بدونها لم تقم مستوطنة واحدة فى الضفة الغربية. مجرد أن تنوى المؤسسة العسكرية أن تضع حلا لهذه المشكلة تصبح الطريق سهلة لتحقيقه، وهذا ما يجب أن تعرفه إدارة أوباما ويجب على الفلسطينيين لفت أنظار المجتمع الدولى إليه لا إلى مجرد بؤر استيطانية عبارة عن أكواخ وخيم تضم فلولا قليلة من المتعصبين، بمجرد أن ترفع الحماية العسكرية سيخلون هم أنفسهم فورا. ومن ناحية أخرى، يجب الانتباه إلى أن هناك هدفا أساسيا من الاستيطان الذى هو مشروع صهيونى مدعوم من مؤسسات عسكرية وهو جعل إسرائيل تتفوق على الفلسطينيين ديموغرافيا.