من عام 1952 وحتى عام 2005 أى طيلة 53 عاما، عشنا بدون حرية أو ديمقراطية تقريبا، وفقدنا كل أليات التعبير عن الرأى مثل حق التظاهر والاعتصام والإضراب، حتى انفتحت مصر فجأة فقررنا ممارسة كل ما حرمنا منه، لكن بدلا من الاستمتاع بهذا المناخ والحفاظ عليه قررنا بدون أى عقل مناطحة السماء واستنزاف الديمقراطية، وتحويلها إلى حالة من الفوضى الجماعية غير المسبوقة.
ومع أهمية الحفاظ على حق الناس فى التعبير والاحتجاج، لكن بعض الاحتجاجات الأخيرة فى مصر تحتاج إلى وقفة، فليس من المعقول أو المقبول أن يقوم 200 ولى أمر باقتحام مدرسة بالجيزة، والاعتصام فيها لعدم قبول أولادهم بمرحلة رياض الأطفال، قد تكون هناك واسطة فى القبول، لكن تظل القاعدة الأساسية هى ترتيب المقبولين حسب العمر، وهو أمر يمكن حله عبر القضاء الإدارى، وليس المظاهرات.
وهو نفس الأمر الذى شاهدناه فى الإسكندرية حين اقتحم 400 مدرس مقر الإدارة التعليمية احتجاجا على اختيارهم كمراقبين فى امتحانات الثانوية العامة التى تنطلق السبت المقبل، ومعروف أن المدرسين بشكل عام يرفضون المشاركة فى أعمال الامتحانات سواء كمراقبين أو فى أعمال التصحيح والرصد فى الكنترولات.
وقد يكون التململ أو الرفض مشروعا، ويجب النظر إلى كل حالة على حدة، فقد تحول ظروف البعض دون أداء هذه المهام التى تفرضها طبيعة العمل، لكن أن يتحول إلى حالة رفض جماعى تستدعى التظاهر والاعتصام، فهذا أمر غريب وغير مسبوق لأنه لو سمحنا لكل مواطن أو موظف بعمل ما يريده وإلا لتحول الأمر إلى فوضى.
هذه بعض نماذج ثقافة الاحتجاجات فى مصر، صحيح أن هناك الكثير من النماذج الإيجابية مثل اعتصامات العمال، وإضراب العاملين بالضرائب، وغيرها من مئات الاحتجاجات المهنية والفئوية والعمالية فى مصر خلال الأربع السنوات الماضية، لكن بعض الاحتجاجات العشوائية تمثل قيدا على الديمقراطية بالضبط كما أن منعها يقيدها.
مشكلة الممارسة الديمقراطية فى مصر أنها لم تصل إلى مرحلة النضج، وكان رأى الكثيرين أن الديمقراطية ترشد نفسها بنفسها، فالناس التى حرمت طويلا من نسيم الحرية ستحاول اختبار كل الأسقف، للتأكد من أن ما تعيشه ليس لحظة عابرة، لكن المشكلة أن بعض الممارسات الاحتجاجية ينطبق عليها المثل الشعبى "هبلة ومسكوها طبلة".
وحتى لا يفرط القراء فى استنتاجات ليست واردة بأى حال مثل أن المقال يمثل دعوة ما لتقييد الديمقراطية فإننى أكد للمرة الألف تمسكنا بالديمقراطية حتى ولو تعلق بها بعض الظواهر السلبية والاحتجاجات العشوائية غير المبررة، والأمل.. كل الأمل.. الوصول إلى قناعة حقيقية بأننا انتزعنا هذه المساحة من الحرية بعد عقود طويلة من الظلم، لذلك علينا الحفاظ عليها، وتوسيعها بالترشيد والعقل، والممارسة الناضجة.
طريقنا للحرية والديمقراطية الكاملة لايزال طويلا، والكثير من حقوقنا الأساسية لا تزال غائبة، والأحزاب السياسية لا تزال هامشية، وقوى المجتمع المدنى لم تصل إلى مرحلة التعبير عن كل شرائح المجتمع، لذلك نحن نحتاج إلى الكثير من ضبط النفس، وتحديد الأهداف والتركيز على الأولويات والبعد عن الاحتجاجات الفوضوية التى قد تفيد بعض الشرائح المحدودة لكنها فى النهاية تؤثر على مسيرة التطور الديمقراطى التى نسعى إليها جميعا