لم يترب الشعب المصرى على ثقافة الاختلاف، فالقمع هو سيد الموقف فى معظم حياتنا الرسمية وغير الرسمية، هناك فئة تتحدث، وأخرى تسمع، واحدة تصر أن تلعب دائما دور الدليل، والثانية ترفض أن تقوم بأى شىء سوى أن تكون فى دور المتلقى.
ومن هذا المنطلق أصبح لدينا فئتان، الأولى تضم العظماء، العباقرة، الذين اختصهم الله بالرؤية الثاقبة والبصيرة القوية والاطلاع على الغيب أحيانا، والثانية تضم الجهلة المتخلفين من الذين يعاملون معاملة المتطاولين على أسيادهم، إذا فكروا يوما أن يختلفوا معهم.
وبات من المستحيل أن يتجرأ أى شاب على توجيه النقد إلى واحد من هؤلاء العظام الكبار أصحاب المقامات الرفيعة، فعلى سبيل المثال مفترض أن يكون الوسط الثقافى والصحفى، من أكثر فئات المجتمع تحضراً، وديمقراطية، وقدرة على تقبل النقد والسماع إلى الآخر. ولكن مع الأسف الشديد هذا لا يحدث، ولا تجد إلا عددا قليلا جداً من الرموز فى هذا الوسط، يملك القدرة على التواصل مع الآخرين، والسماع لوجهات النظر المختلفة عنهم، بل والتعامل معها بكل احترام.
أما البقية، وهم كثر، فيتعاملون مع الآخرين، من منطلق، أنهم فقط من يعرفون كل شىء، ويدركون كل شىء، ووجهة نظرهم هى فقط الصحيحة، ولولا خوفهم من الله، أو من هجوم المجتمع، لقالوا إن وجهة النظر هذه وحى يوحى إليهم، وليس أمام الآخرين سوى السير فى دروبهم، وإلا أمطروهم بوابل من الاتهامات، ولا مانع الخوض شىء ما فى سمعة معارضى أفكارهم الألمعية الجبارة. و السؤال الذى يلح على ذهنى الآن هو لماذا يتعامل عدد كبير من الجيل القديم، والذى يضم كما هائلا من رموز الفكر والثقافة والأدب، مع جيل الوسط والجيل الحديث من منطلق أن هذه الأجيال لا تفقه شيئا؟
لماذا يطالبوننا دائما بالسير خلفهم، لماذا يتعاملون معنا وفقا للسياسة المعروفة "إما أن نكون معهم، أو عليهم"، لماذا يرفضون أن يكون هناك أجيال أخرى لها فكر جديد يختلف شيئا ما أو تماما معهم، لماذا يطالبوننا دائما بالتسبيح لقدراتهم العقلية الجبارة، ونؤمن بتفكيرهم العظيم الذى لا يخطأ أبدا، وأن نؤيد دون تفكير أو تحليل مواقفهم التى يغلب عليها طابع الادعاء والبطولة والقومية، كل هذا من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة، كالانتشار وكسب الشعبية المطلقة.
نعم للأجيال القديمة كل احترام وتقدير منا، ولكن إذا أرادوا أن يستمر هذا الاحترام والتبجيل والتقدير، فعليهم أن يحترموا رؤيتنا وطريقة تعاملنا مع الحياة، وأسلوبنا الخاص، المتماشى مع طبيعتنا، عليهم أن يعرفوا جيدا أن ذاكرة الصحافة ضعيفة جدا، وأنهم مفارقون، ولن يذكر الأجيال القادمة بأسمائهم وأعمالهم سوانا. عليهم أن يعلمونا كيف نبنى شخصية مستقلة بنا، بدلا من أن يجعلونا مسوخا مستنسخة منهم، كى يظلوا منفردين بالساحة والعظمة والإجلال.
يجب عليهم أن يعلمونا فن وثقافة الاختلاف مع الآخر، كيف نتقبل ونحترم وجهة النظر الأخرى، لأن العالم لم يخلق أبدا ليتوحد الناس خلف وجهة نظر واحدة، واتجاه فكرى واحد، ولو كان خلق لهذا لما تعددت الأديان السماوية، ولكن أعود لأقول فاقد الشىء لا يعطيه. فمع الأسف الشديد لمرة أخرى، معظم هؤلاء الكبار العظماء تربوا على القمع، على قهر الآخر، على وحدوية التفكير، على الرمز الإله، الذى يجب ألا يختلف معه أى إنسان.. تربوا على مبدأ أن الشاب حمار، إلى أن يثبت أنه حمار، وبالتالى فهو حمار فى كل الأحوال، لا يفهم شيئا، ولا يفقه شيئا.
لهذا لم أعد أتعجب من شنهم حروبا على كل من يختلف معهم فى الفكر، ولم أعد أسأل نفسى لماذا لا يؤمنون بأنه يجب أن يكون هناك آخر، حتى تستمر الحياة، وتسير بشكل طبيعى، أو لماذا يصرون أن يجعلوا من أنفسهم كعبة نولى جميعا وجهنا شطرها. لم يعد بوسعى سوى أن أقول لهم جميعا، قبل أن تنادوا بالديمقراطية تحلو بها، علموا أنفسكم الاختلاف، وعلمونا معكم، قد يرحمنا ويرحمكم الله