99 فى المائة من أوراق اللعب فى الشرق الأوسط فى يد أمريكا»، المقولة التى أطلقها الرئيس السادات، ليؤكد بها يقينه أن مفتاح حل مشكلة الشرق الأوسط فى يد أمريكا. الرئيس السادات واجه انتقادات كبيرة لقوله هذا. لكنه ترجمه إلى تحركات عملية بدأت منذ اليوم الأول لتوليه مهام منصبه رئيسا لمصر.
وبالرغم من معارضة ذلك فقد ظل السادات مصرا على موقفه، منذ اليوم الأول لحرب اكتوبر 1973، كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام برعاية الرئيس الأمريكى جيمى كارتر. واستمر الرهان على أمريكا التى لم تكف عن سياساتها فى العالم، واستمر تدفق المعونة الأمريكية على مصر، وتواصلت اللعنات والشكوك تجاهها لأنها بدت سببا للشر والمؤامرة فى العالم، تحالفت مع شاه إيران وخذلته ومن بعده جعفر النميرى فى السودان، تدخل فى مصادمات ضد إيران وتساعد الرئيس العراقى صدام حسين فى مواجهة حكم الملالى وفى الوقت نفسه تبيع السلاح لإيران فى صفقة إيران كونترا، تدعم الأفغان وتعاديهم، وتحالف السعودية.
أمريكا كانت دوما قمة المتناقضات السياسية، تدعو للديمقراطية وتدعم نظم حكم قمعية، تسقط حكم العراق بزعم امتلاك سلاح نووى، وتدعم إسرائيل لامتلاك هذا السلاح. ظلت مشاعر الناس والسياسيين تجاه أمريكا متناقضة، ومقابل العداء الواضح والتوجس والخوف من الإدارات الأمريكية المتوالية، كانت الثقافة الأمريكية تجتاح كل الجبهات، زجاجة الكوكاكولا وبنطلون الجينز الأزرق، سلاسل المطاعم الأمريكية، مثل بيتزا هت وكنتاكى، الدليفرى.. مرورا بتفاصيل كثيرة للثقافة الأمريكية والتغلغل فى الوجدان الشعبى الذى يتوجس بعمق فى النظر لأمريكا وهو يمارس طقوسا يومية أمريكية.
حلم الهجرة إلى أرض الأحلام مستمر بين كل الطبقات فى مصر، وتبدو واحدة من 55 ألف تأشيرة تقدمها أمريكا ضمن برنامج الهجرة العشوائية حلما لشباب العالم ويتقدم لها من مصر سنويا حوالى 100 ألف، فضلا عن أن هناك أكثر من 30 ألف تأشيرة للدراسة والعلاج، يستقر بعضهم هناك، وتصبح الجرين كارت هى الحلم الدائم لمئات الآلاف من العرب أو المصريين. أما ولادة طفل مصرى فى أمريكا فهى حبل خلاص لمستقبل مختلف.
وحتى هؤلاء الذين يصفون كل ما هو مزيف بأنه أمريكانى لايمكنهم إنكار كون أمريكا لها جاذبيتها وغموضها. وهؤلاء يهتمون بانتخاب رئيس أمريكا أكثر مما يشغلهم اختيار رئيسهم.
وأمريكا هى الدولة الوحيدة فى العالم التى تفعل ذلك ضمن الحلم والأسطورة التى تستحق اللعنة مع الانبهار. وبالرغم من اللعنات التى يصبها المصريون على أمريكا تطاردهم فى كل تفاصيل حياتهم، ليس فقط بحكم التحالف مع الحكومة أو النظام المصرى، لكن أيضا بحكم التواجد القسرى للثقافة الأمريكية التى تختلف عن باقى الثقافات، فالأمريكان بسطاء، لا يهتمون بالملابس كثيرا وكان بنطلون الجينز الأزرق منذ السبعينيات هو جواز العبور إلى الشباب، فالبنطلون شديد التحمل ولا يحتاج إلى مكواة أو غيرها، وحتى لو كان ممزقا أو ملوثا فهو عملى ورمز للشباب خلال سنوات.
السينما الأمريكية هى الأخرى جزء من هذا التواجد القسرى فى حياة المصريين، فالأفلام الأمريكية تقدم كل الأفكار والألوان والأنواع، تنتقد رؤساء أمريكا وتسخر منهم، وأيضا تقدم الكوميديا والتراجيديا وحتى نظرية المؤامرة التى تعتبر أمريكا مسئولة عن مشكلات العالم تجد طريقها إلى العالم فى أفلام مهمة وعميقة، يعرف المصريون أسماء مثل جوليا روبرتس، وروبين وليامز، وجاك نيكلسون، وروبرت دنيرو، ويحلمون بمارلين مونرو، ويرقصون مع مايكل جاكسون. وتقدم الصحافة الأمريكية نموذجا لحرية الرأى والتعبير، والصحفيون ينتقدون رؤساءهم بعنف وفى العلن بل إن أكبر فضائح المخابرات والرئاسة خرجت من الصحف الكبرى مثل الواشنطن بوست، والنيويورك تايمز.
ولعل فضيحة وتر جيت أو إيران كونترا أو حتى أبوغريب فى العراق مثال على ذلك، فقد عرفناها من الصحافة الأمريكية التى بدأت النشر، وتابعها العالم، وتمثل مجلات مثل التايم ونيوزويك نماذج يحتذى بها. وعندما تحدد تايم الشخصيات الأكثر تأثيرا فى العالم نسير خلفها.
وفى عالم السياسة يمثل النموذج الأمريكى مثالا لأفضل طرق الديمقراطية. حيث يتولى رئيس أمريكى كل أربعة أعوام، ولا يحق للرئيس أكثر من فترتين فى العمر، نرى رؤساء أمريكيين سابقين يسيرون فى الشوارع، يكتبون مذكراتهم، ولا مانع إطلاقا من أن يتولى ممثل من هوليود رئاسة الولايات المتحدة مثل رونالد ريجان، أو حتى رئيس أسود فى بلد عرف أنه عنصرى حتى وقت قريب.
كل هذا مع كتابات أمريكية تؤكد أن الشعب الأمريكى مخدوع يخاصم القراءة ولا يهتم بأكثر من متابعة الحوادث، ولايعرف عن العالم أكثر مما يقدمه له الإعلام. لكنهم يبهرون العالم بمنتجاتهم وحرياتهم وتعددهم.
ونرى نماذج تثير الإعجاب مثل بيل جيتس أغنى أغنياء العالم، الذى يقدم نموذجا للنجاح والثروة، وأيضا الإنسانية، لأنه تبرع بثلث ثروته للأعمال الخيرية. أمريكا هى التى تحتضن الإنترنت ساحر العالم الحديث، والجامعات وحرية الاعتقاد والبحث العلمى، وهى التى تمارس العنصرية وتكافحها، وبرامج الكلام فيها هى نموذج العالم. ومنها خرجت أول قنبلة نووية، وأول جهاز كمبيوتر، يتداخل فيها التجسس بالحرية المطلقة، والتخابر بأعلى درجات الحرية للاعتقاد والرأى.
وأيضا الموضات الجديدة للموسيقى الميتال والروك آند رول والشارلستون والهيبز وديزنى لاند التى أعادت إنتاج أساطير العالم كله، بلا خجل من كونها دولة حديثة العهد لاتمتلك تاريخا وتعتبر العالم كله تاريخا لها.
أمة المهاجرين التى تحولت إلى أسطورة تغرى كثيرين بتقليدها حتى وهم فى أشد لحظات الغضب منها. بقدر ما أغضب بوش العالم فإن فوز الفتى الأسود باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة مثل مفاجأة لكثيرين، تثير الإعجاب والصدمة فى وقت واحد.
وفى أحيان كثيرة يستخدم الكتاب العرب الكبار الصحافة الأمريكية لتوثيق انتقاداتهم وكتاباتهم حتى لأمريكا نفسها من صحف ومعلومات كتبها أو نشرها أمريكيون. فالمعارضون لأمريكا يبرهنون بأمريكيين، والمؤيدون يقدمون أمريكيين..
ومن هؤلاء الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذى ضمن كتبه وثائق أمريكية حول مصر يتيح القانون الأمريكى الإفراج عنها، بينما لايمكننا أن نعرف ما حولنا، بل إن كتابات هيكل التى يصور فيها كيف تتلاعب أمريكا بالعرب وكيف ترسم خرائط المفاوضات كما تريدها، وكيف تستخدم الضغوط والإغراءات، كلها تساهم مباشرة أو بشكل غير مباشر فى صياغة أسطورة القوة الأمريكية، التى تحقق ماتريده، فهذا الطائر الضخم الذى يشبه العنقاء، أكبر دولة مدينة ودائنة، وأكبر دولة تنتج أفلاما وتحتوى على مجرمين، وجرائم كل ثانية، تمثل بكل تناقضاتها وبساطتها أسطورة، هى التى علمت العالم كيف يصنع الصور التى تغزو العالم، تصنع الرؤساء وتعرف مؤسسات الضغط والتفكير، واللوبيات والتدخلات.
هى التى تصنع رواج العالم وتحدد له وقت أزماته. كل هذا الطائر الخرافى الذى تكرهه، تقع فى هواه حتى وأنت فى أشد حالات العنف. وهو تناقض، موجود فى تركيبة أمريكا مثلما فى تصرفاتها. لا توجد علاقة ملتبسة فى مصر مثل العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ننام ونصحو ونحن نلعن أمريكا ونخاف منها ونتوجس فى نواياها، وأمامنا «سى آى إيه»، ومساندة إسرائيل ومعاداة العرب.. هى التى هزمتنا فى يونيو 76، وهى التى ساندت إسرائيل وأنقذتها من الانهيار فى حرب 1973، وهى التى تضغط علينا بالقمح والخبز.
أمريكا هى «الطاعون والطاعون أمريكا» كما صورها الشاعر العربى الكبير محمود درويش فى قصائده. ومازلنا نحمل والعالم كله ذكريات سيئة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية التى تلعب بالجميع وتلاعب العالم وتطمع فى فرض الهيمنة والسيطرة على كل المقدرات. فهى التى صنعت المجاهدين الأفغان لإنهاء أسطورة الاتحاد السوفيتى، وهى التى ضربت القاعدة وحلفاءها من قبل بعد سبتمبر.
رونالد ريجان هو الذى قاد نهاية الحرب الباردة ومعه جورج بوش الأب، ووقف رئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون متهما بالكذب حول علاقاته الجنسية. مع أنه حقق رواجا اقتصاديا غير مسبوق.
كل هذه اللعنات التى نصبها على أمريكا وهى تنام معنا فى الأسرة وتطاردنا فى الفضائيات، وصور الممثلين العالميين والمطربين والراقصين والممثلات تزين غرف الشباب والمراهقين الذين يمارسون حياتهم بكلمات ومصطلحات أمريكية، لأن الثقافة الأمريكية أسهل كثيرا من عالم الارستقراط القديم الذين كانوا يحملون الثقافة الفرنسية ويمارسون أنواعا من الإتيكيت اندثرت أمام زحف الثقافة الأمريكية التى تحمل بساطة وعفوية.
وفى السياسة هناك أيضا المعونة الأمريكية التى تدخل فى صميم حياتنا منذ سنوات، مصر تتلقى مليارات المعونة سنويا، وأمريكا لها شروط اقتصادية وسياسية وإقليمية.
مصر تقبل المعونة وترفض شروطها. وتحاول تنفيذ ما لا يخل بها.، فتتحول إلى أداة للضغط، بينما يُثرى منها عدد محدود. فى أمريكا يستخدمها مساندو إسرائيل للضغط، وفى مصر يطلب المعارضون إلغاءها متفقين مع معارضين فى الخارج يطالبون بتوظيفها كأداة ضغط. وتعلن الحكومة أنها لاتؤثر فى القرار، بينما أى خطوة سياسية فى الغالب تعمل ألف حساب لأمريكا، والزيارات والمبعوثون المصريون الرسميون يطرقون الأبواب، هناك اتفاقيات للتجارة الحرة، والكويز كشرط لتفعيلها والسماح بدخول المنتجات المصرية إلى أمريكا.
كل هذا وغيره يؤكد أن أمريكا تعرف ماتريده، فماذا نريد نحن منها أو من غيرها؟ لا نريد أن ننبهر بها ولا أن نكتفى بلعنها، نحاول أن نفهمها ونتعامل معها بما يساوى قدراتنا، لا ننهزم أمامها ولا ندعو لمواجهتها بالكلام والادعاءات. لأنها تسكن معنا.
لمعلوماتك...
◄32 نائباً فى الكونجرس وجهوا خطاباً إلى مبارك معبرين فيه عن تقديرهم لدور مصر
من أجل سلام
◄2007 وضعت هيئة المعونة الأمريكية مشروعا لإصدار صحف وإقامة محطات تلفزيونية فى مصر