الشجاعة: هى قوة فى النفس ينشئها الإيمان الصادق، بثبات القلب والثقة بالله، فيخلو القلب من الوهن الذى هو حب الدنيا وكراهية الموت. "وتقوم الشجاعة أساسًا فى ضبط النفس عند مواجهة الخطر، وفى الظروف الأليمة، كما تقوم فى مواجهة الظلم والشر بالقول والفعل، وفى التغلب على الصعوبات والأخطار التى تتجاوز المعتاد، وفى احتمال أشد الآلام بصبر وثبات"(1).
والشجاعة تقترن دائمًا بالخطر على الحياة، وتطلب التضحية بالحياة الفردية فى سبيل إنقاذ الخير الأسمى الذى هو الدين والأمة الإسلامية. وباستقراء آيات القرآن الكريم التى أمرت المسلمين بالقتال والثبات يوم الزحف ومجابهة الأخطار، يبين أنها إنما أمرت بذلك فى سبيل خير أعظم من الحياة، وهو الدين.
يقول الله تبارك وتعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، ويقول: { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، ويقول: { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّهِ } [النساء: 84]، ويقول:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].
ولكى نربى المسلم الشجاع الذى لا يعرف الجبن، علينا أن نرسخ فى أعماقه الإيمان بالقيمة العليا للدين والأمة، وبالقيمة المتوسطة للحياة الفردية(2).
تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستكمن، إنه يضفى على صاحبه قوة تنطبع فى سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخًا فى عمله، وإذا اتجه كان واضحًا فى هدفه، وما دام مطمئنًا إلى الفكرة التى تملأ عقله، وإلى العاطفة التى تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل لا عليه أن يقول لمن حوله} قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [الزمر: 39- 40].
هذه اللهجة المقرونة بالتحدى، وهذه الروح المستقلة فى العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق.. ذلك كله يجعله فى الحياة رجل مبدأ متميزا، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين نأى بنفسه، واستوحى ضميره وحده(3).
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «لا يكن أحدكم إمعة. يقول: أنا مع الناس. إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم»(4).
إن الإسلام يكره للمسلم أن يكون مترددًا فى أموره، يحار فى اختيار أصوبها وأسلمها.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»(5).
ومن أفضل الشجاعة: الصراحة فى الحق، وكتمان السر وحفظه، والإقرار بالخطأ والاعتراف به، والإنصاف من النفس، والانتصار للغير منها، وملكها عند الغضب.
وفى الحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(6). ويقول عبادة بن الصامت - رضى الله عنه-: «بايعنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم»(7).
وليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن كثيرًا من الأعمال اليومية تحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود، فرجال المطافئ والأطباء وعمال المناجم وصيادو الأسماك فى البحار عند اشتداد الرياح وتلاطم الأمواج، والممرضات اللائى يتعرضن للأخطار بتمريض المصابين بالأمراض المعدية وربانو السفن، كل هؤلاء وأمثالهم شجعان يتحملون الأخطار كما يتحمل الجنود، ويقابلون الشدائد بصبر وثبات. ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات ويتصرف فيه بذهن حاضر وعقل غير مشتت(8).
وهناك ما يسمى بالشجاعة الأدبية، ونعنى بها أن يبدى الإنسان رأيه، وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به أو تقولوا عليه من غضب عظيم، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابًا.
• صور من الشجاعة:
1- شجاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم-:
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس، لا يبالى بكثرة العدد، ولم يفر من عدو قط، ولم يدبر منهزمًا قط، يقول على بن أبى طالب - رضى الله عنه-: «كنا إذا اشتد البأس، وحميت الحرب اتقينا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا إلى العدو» - ولقد كانت الصحابة تقول: «إن الشجاع منا للذى يقوم بجانبه يستتر به»، وقيل لأنس - رضى الله عنه-: أفررتم يوم حنين عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: لكن رسول الله لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها والنبى – صلى الله عليه وسلم- يقول:
أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وجاء فى العقد الفريد أنه – صلى الله عليه وسلم- كان يمتدح الموت قصعًا، أى رمية أو ضربة، ويهجو الموت على الفراش(9).
2- شجاعة أبى بكر الصديق - رضى الله عنه-:
تظهر شجاعة أبى بكر الصديق - رضى الله عنه- جلية فى حرب المرتدين ومانعى الزكاة، إذ إنه وقف صامدًا صلبًا قويًا واثقًا بمعية الله -عز وجل- حتى قال بعض المسلمين له: يا خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لا طاقة لك بحرب العرب جميعًا.. ألزم بيتك، وأغلق بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين!! ولكن الرجل البكاء اللين الرقيق رحيم القلب، ينقلب فى لحظة إلى أسد ثائر، يصيح فى عمر بن الخطاب: أجبّار فى الجاهلية، خوار فى الإسلام؟ لقد تم الوحى واكتمل.. أفينقضى الدين وأنا حى؟ والله لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه.
3- شجاعة عمر بن الخطاب - رضى الله عنه-:
حياة عمر - رضى الله عنه- تنم عن شخصية قوية لا تهاب أحدًا، ولا تكتم حقًا، ويظهر هذا منذ بداية إسلامه، حيث قال: يا رسول الله: علام نخفى ديننا ونحن على الحق، وهم على الباطل فقال: رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: إنا قليل وقد رأيت ما لقينا. فقال له عمر: والذى بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج الرسول – صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة فى صفين من المسلمين فى أحدهما حمزة وفى الآخر عمر.
وعندما أراد أن يهاجر أعلن على الملأ من قريش: من شاء أن تثكله أمه، وييتم ولده فليلقنى خلف هذا الوادى، فما استطاع أحد أن يتتبعه. ونرى هذه الشجاعة واضحة فى تعامله مع المنافقين والمشركين.
4- مواقف أخرى لصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:
لما دنا المشركون يوم بدر، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لأصحابه «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عُمير بن الحمام الأنصارى يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض ؟! قال: نعم، قال: بخ بخ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: وما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها.. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم فمازال يقاتل حتى قُتل(10).
وعن عبد الرحمن بن عوف - رضى الله عنه- قال: «إنى لفى الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأنى لم آمن بمكانهما، إذ قال لى أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم: أرنى أبا جهل، فقلت: يا ابن أخى ما تصنع به ؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه؟ وقال لى آخر سر من صاحبه مثله قال: فما سرنى أننى بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء»(11).
5- نماذج من شجاعة بعض علماء الأمة:
التاريخ مملوء بكثير ممن ضحوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل قوة الحق ونصرته، وصبروا على الآلام عشقًا للحق وهيامًا به، واستعذبوا الرزايا تنزل بهم، لأنهم يحبون الحق أكثر مما يحبون أنفسهم، فقد أُوذوا فى الحق، فتحملوا الأذى وباعوا أنفسهم، وأموالهم مرضاة له.
فأحمد بن حنبل المتوفى سنة 240هـ عُذب وسُجن فيما يسمى فى التاريخ بفتنة خلق القرآن، ولكنه ثبت على موقفه ولم يتزحزح عنه، وابن تيمية أحد الفقهاء المشهورون المتوفى سنة 728هـ، أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره فى بعض المسائل فوشوا به إلى السلطات فسجنه، فظل يكتب الرسائل فى سجنه يؤيد بها مذهبه ويدحض بها حجج معارضيه، وفى العصر الحديث ثبت كثير من الدعاة فى وجه الطغاة منهم الشهيد سيد قطب حينما حاول النظام الناصرى إثنائه عن رأيه وتأييد الرئيس جمال عبد الناصر، وقال قولته الشهيرة "إن إصبع السبابة الذى يشهد لله بالوحدانية فى الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا يقر به حكم طاغية"، وهناك نماذج كثيرة لا يتسع المقام لذكرها تدل على شجاعة العلماء نصرة للحق وامتثالا لأمر الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأخلاق النظرية، د. عبد الرحمن بدوى، ص 178.
(2) الفضائل الخلقية فى الإسلام، د. أحمد عبد الرحمن، ص 157.
(3) خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالى، ص 95 .
(4) رواه الترمذى.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه أبو داود والترمذى وابن ماجة.
(7) رواه مسلم.
(8) الأخلاق، أحمد أمين، ص 206.
(9) العقد الفريد، ابن عبد ربه، 1/101 .
(10) رواه مسلم وأحمد.
(11) متفق عليه