عدد الرسائل : 17047 الموقع : جريدة الامة تاريخ التسجيل : 24/09/2008
موضوع: إخراج القيمة في زكاة الفطر أولى من إخراج العين السبت 12 سبتمبر 2009 - 5:19
: يتردد على ألسنة بعض العلماء عدم جواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود، ويتساءل بعض الناس عن حكم إخراجها بالنقود في كل عام من شهر رمضانَ؟ فهل يجوز إخراج الزكاة نقودا مع العلم أنا الأيسر للفقير والمزكي ؟؟
الحل
بسم الله،والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: يرىفضيلة الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ أستاذ الشريعة بجامعات سوريا أنالأفضل والأيسر للفقير والمزكي إخراج القيمة نقودا؛ لأن العلة من فرض الزكاة هوإغناء الفقراء في هذا اليوم فمتى تحقق الإغناء كان ذلك هو الأولي وإليك نص فتواه فيهذه المسألة حيث يقول فيها:
ثَبَتَ عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه أخرَجوأمَرَ بأن يُخرِجَ مَن كان مقتدرًا زكاةً عن فطره في آخر رمضان ـ بعد صلاة الفجروقبل صلاة العيد ـ مقدارُها عن نفسه وعن كل فرد تحت ولايته ومئونته صاعٌ من البُرِّ (القمح)، أو نصفُ صاع منه، بحسب اختلاف الرواية، أو صاع من الشعير أو من التمر أوالزبيب أو الأَقِط وذلك معونة للفقراء بمناسبة عيد الفطر عَقِبَ شهر الصيام.
ورُوِيَ أنه ـ عليه الصّلاة والسلامـ قال: "أغنوهم في هذا اليوم". ولم يُنْقَلْ في ذلك خلافٌ يعرف في الصدر الأول منالإسلام بين الصَّحابة والتابعين، فكان الناس يخرجون زكاة فطرهم ممّا يتيسَّر لهممن هذه الأموال الغذائية الخمسة سوى ما نُقل من اختلافهم بالنسبة إلى البُرِّ (القمح) بسب اختلاف الرواية فيه: هل يُخرج منه نصفَ صاع أو صاعًا كاملاً كالشَّعير؟
وواضح جدًّا من قول الرسول ـ عليهالصلاة والسلام: "أغْنُوهم في هذا اليوم"أن المقصودَ الأساسيَّ من هذه العبادةالمالية هو إغناء الفقير في هذا اليوم، يوم الفرحة والسرور، وليس المقصود نوعًا أوأنواعًا معينةً بذاتها من الأموال، بدليل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جمع بين خمسةأنواع من الأطعمة الميسورة للناس في ذلك الوقت مختلفة الوظائف: فمنها غذاء أساسيلسدِّ الجوع، ومنها ما هو للتحلية والتَّسلية في يوم الفرحة كالزَّبيب. ثُمَّ ما إِنْ نشأت المذاهب الفقهية، وتكوَّنت حولها الأتباع،حتى بدأ التَّرف العلمي يَذُرُّ قَرْنُه، ويمسك بنقاط فرعيةٍ في الموضوع يَقفعندها، ويتشدَّد فيها، ويربط بها أصل العبادة بتأويل يتمسك به، ولا يرى وجهًالخلافه، وينسَى حكمة الشارع من الأحكام، وينسَى التمييز بين الوسائل والغايات، بليعطي الوسائل غير المقصودة بالذات أكثرَ مما يعطي الغايات الشرعية الثابتة منالأهمية !!
فوُجد مَن قال من أهل المذاهب: لا يجوز أن تُخرَج زكاة الفطرإلا من هذه الأرزاق الخمسة عينًا، ولا يصح منه إعطاءُ الفقراء قيمتَها من الدراهموالدنانير.
وحجتهم في ذلك أنهذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، وأن الأصل فيالعبادات التوقيف وعدم التعليل، فيجب الوقوف عند حدود النص، ولا يجري فيها القياسوالاستحسان والاستصلاح. وقد كانت الدراهم والدنانير موجودة وقت التشريع ولم يذكرهماالنبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه أخرجها بالدراهم أوالدنانير، ولو أنه حَصَل لَنُقِلَ؛ لذلك لا تصحُّ زكاة الفطر في نظرهم إلا من هذهالأعيان.والجواب: عن هذه الحجة واضح للمتأمل: هو أن زكاة الفطر من أصلها هي معقولةالمَعنى، مثل زكاة الأموال التي هي مئونة وتكليف مالي اجتماعي لمصلحة الفقراء،الذين يجب أن ينهَض بهم الأغنياء، فلا يكون المجتمع الإسلامي قسمين ولا وسط بينهما:قسمَ الأغنياء المَتخومين، وقسمَ الفُقراء المحرومين. فتشريع زكاة الفطر وزكاة الأموال معقول المعنى، ويجب عندالاشتباه النظر إلى ما هو أنفع للفقير، أو أيسر على المكلف، وليس مثل عدد ركعاتالصلوات توقيفًا محضًّا لا دخل للعقل فيه، بل الفارق بينه وبين عدد الرَّكَعَاتفارِق عَظيمٌ .
ألا ترى أن تحديد المقادير في زكاة الفطر بإجماع المذاهب إنماهو تَحديد للحدِّ الأدنى الذي لا يصح أقلُّ منه، ولو زادَ المكلَّف فيه فأعْطَىأكثرَ منه فله فَضل ثَواب، بينما لو زادَ المصلِّي فِي ركعات فَريضة الصلاة لا يجوزله ولا يُقبل منه؟! على أن زكاة الفِطر قد جاء في الحديثالنبوي نفسه تعليلها معها، فقد بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكمتَهاوغايتَها وسبب إيجابها حين قال: "أغنوهم في هذا اليوم" وأصل الإغناء يكون بالنقودالتي تصلُح لجلب جميع الحاجات من أغذية وغيرها. وأما أنَّ النبيـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يذكر الدنانير والدراهم في زكاة الفطر، ولم يُنقل عنأحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه أخرجَ بها، فذلك سببه أنها كانت قليلةً فيذلك الوقت لا يَتوافَر منها إلا القليل لدى القليل من الناس، ومعظم أموالِهم التيكانوا يتداوَلونها ويتبادلون بها كأنَّها نقود، قد كانت هذه الأنواع الغذائية التيوردت في حديث زكاة الفطر، وأنواع الأنعام لدى أهل البوادي من الإبل والغَنموالبقر. والله ـ سبحانه وتعالى ـ لميتعبَّدْنا بشيء من أنواع الأموال أو الأغذية على سبيل التعيين والتخصيص، تحت طائلةالبُطلان لو قدَّمنا في الواجبات المالية غيرَها، وإنما تعبَّدَنا بالماليةالمطلَقة، وبمقاديرَ محدَّدةٍ منها؛ لأنها هي ذات الاعتبار الثابت لدى جميع البشر،وفي جميع الأزمنة. فربح التاجر وخسارته مثلاً لا يرتبطان بنوع معين من أمواله إذازاد أو نَقَص، وإنما يرتبطان بمجموع ما عنده من أنواع المال ذات القيمة أيًّا كانت.
إن زكاة الأموال ـ وهي أعظمعبادة مالية في تكاليف الإسلام، مع أن الله تعالى قال فيها: (خُذْ مِنْأَمْوالِهِمْ صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا..) (التوبة: 103) ممّايُشعِر ظاهرُه أنها يجب أن تؤخَذ من عين المال المُرادِ تزكيته ـ يصحُّ بالإجماع أنيخرج الإنسان ما يعادِل قيمتَها من النقود، بل من مال آخرَ لديه؛ لأن مقصودَ الزكاةأن يتخلى المكلَّف عن قدر من ثروتِه محدد إلى الفقراء كيلا يبقَى المجتمع الإسلاميـ كما سبق بيانه ـ متكوِّنًا من مَتخومين ومحرومين. وأفضل ما يتخلَّى عنه المكلَّفمن ثروته لمصلحة الفقراء هو النقودُ، التي يستطيع بها الفقير وفاءَ جميع حاجاته،وتحصيلها بكلِّ يسر، في حين لو اجتمع لديه مجموعة من الأرزاق بأعيانها لا يستطيع أنيستفيدَ منها ما يستفيد من النقود. على أن المزكِّيَ لو أرادَ أن يُخرج زكاتَه منأعيان المال الذي عنده لكان مقبولاً منه؛ لأنه قد يكون هو الأيسر عليه، وأن سياسةالإسلام التيسيرُ على المكلَّف. يقول الأستاذ الكبير العلامة الدكتوريوسف القرضاوي في كتابه القيم: "كيف نتعامل مع السنة النبوية" (ص: 138) مانصه.
"السنةبين اللفظ والرُّوح أو بين الظَّواهر والمقاِصِد ". إنالتمسك بحرفية السنة أحيانًا لا يكون تنفيذًا لرُوح السنة ومَقصودها، بل يكونمُضادًّا لها، وإن كان ظاهره التمسكَ بها. خذ مثلاًتشدُّدَ الذين يرفضون كل الرّفض، ولا يجيزون إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدًا، كمايُجيزه أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيره من فُقهاء السلف. وحجة هؤلاء المتشدِّدين: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـأوجبها في أصناف معينة من الطعام: التمر والزَّبيب والقمح والشّعير، فعلينا أن نقفعند ما حدَّده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نعارض السنة بالرأي. ولو تأمَّل هؤلاء الإخوة في الأمر كما ينبغي لوجدوا أنهمخالَفوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحقيقة، وإن اتبعوه في الظّاهر، أقصدأنهم عُنوا بجِسم السنة، وأهملوا رُوحَها.
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ راعَى ظروف البيئة والزمن،فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة، وكان ذلك أيسرَ على المُعطي،وأنفعَ للآخِذ. فقد كانت النقود عزيزة عند العرب، وخصوصًاأهل البوادي، وكان إخراج الطعام ميسورًا لهم، والمساكينُ محتاجون إليه؛ لهذا فَرَضَالصّدقة من الميسور لهم. حتّى إنَّه رَخَّص في إخراج (الأَقِط) ـ وهو اللَّبَن المُجفَّف المنزوع زُبْدُه ـ لمن كان عنده وسهل عليه، مثلأصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية.
فإذا تغيَّر الحال، وأصبحت النقود متوافرة، والأطعمة غيرمتوافرة، أو أصبح الفقير غيرَ محتاج إليها في العيد، بل محتاجًا إلى أشياءَ أخرىلنفسه أو لعياله، كان إخراج القيمة نقدًا هو الأيسرَ على المُعطي، والأنفعَ للآخذ،وكان هذا عملاً بروح التوجيه النبوي، ومقصوده أ.هـ.
لقد آل تشدُّد هؤلاء المتشددين تشدُّدًا في غير محلِّه، حيثيطبق رأيهم، إلى أن تنعكس الآية بالنسبة إلى الفقراء، فيقعوا هم في الخسارة،وينالُهم الضَّرر من جرّاء هذا التّشدُّدِ !!
فقد سمعتُ، ثُمَّ رأيتُ بنفسي أنالرَّجل يأتي عندهم إلى السوق في آخر رمضان، فيشتري القمح والشعير والتمر بمقدار ماعليه من زكاة الفطر، ويأخذه إلى الفقراء القاعدين في زاوية من السوق فيعطيهم إياه،وقد يكونون محترفين، وما إن يذهب حتى يقوم هؤلاء إلى البائع نفسه فيبيعونه ما أخذوابثمن أدنى ممّا باع به الرجل الذي اشتراه من عنده؛ لأن الفقير الذي أخذ الأرزاق ليسمحتاجًا إليها، بل هو محتاج إلى النقود، فتعود النتيجة عليه بالخسارة، ولو دفعالمزكِّي قيمتها مباشرة إليه لحصل على نقود أكثر.
إن مَن يدفع قيمة صدقة الفطر من النقود للفقير يكون قد أعطاهعمليًّا أيًّا من الأطعمة الواردة في الحديث، مع زيادة، وهي فرصة اختيار ما يشاء منتلك الأطعمة، أو اختيار سواها من حاجاته التي هي في نظره أهمُّ. وبذلك يكون معطي القيمة من النقود قد أدَّى الواجب، وأحسنبالزيادة، فكيف يقال: إن هذا غير جائز؟! هذا،وقد نقلالعلامة المرداوي من الحنابلة في كتابه"الإنصاف" أن جواز إخراج القيمة من النقود هورواية مخرَّجة من الإمام أحمد نفسه.
تناقض هؤلاء المتشددين: في هذا العصر وَجَد هؤلاءالمتشدِّدون أنفسَهم أمام مشكلة بالنسبة إلى القمح والشعير، اللذين هما العنصرالغذائي الرئيسي بين الأنواع الخمسة الواردة في الحديث النبوي. ذلك أنه في هذا العصر قد تبدَّلت وسائل حياة الناس تبدُّلاًعظيمًا؛ بسبب الابتكارات المذهِلة التي ظهرت خلال هذا القرن، ويسَّرت العسير،وأحدثت الكثير مما لم يكن مُمكنًا في أوائل هذا القرن. فاليوم في المدن لم يعد أحد يتموَّن القمح أو الشعير، ويطحَنفي بيته ويخبِز، بل كل أسرة تشترى خبزَها وبرغلَها جاهزًا من السوق، وتختار منأنواعه المتعددة ما تشاء. وهكذا غابت الرَّحَى السَّوداء المتنقلة من البيوت بعد أنظلت الرَّحى القرونَ الطِّوالَ من أساسيات كلِّ بيت، ولم يبق لها وجود إلا في حياةالبوادي والقبائل الرُّحَّل، فماذا يفعل اليوم الفقير بصاع القمح أو الشعير، وكيفيطحنه ويخبزه؟
هنا تنبهالمتشددون في زكاة الفطر، فأفتَوا بإضافة الأُرْزِ إلى الأصناف الخمسة التي وردت فيالحديث النبوي، وهنا سقطوا في التناقض!! فإن حُجَّتَهم الوحيدة في الاقتصار علىالأصناف الخمسة، كما سبق بيانه، إنما هي أن زكاة الفطر عبادة، وأن العباداتمَبْنِيَةٌ على التَّوقِيف، ولا يجري فيها التعليل والقياس، فكيف ساغ لهم أنيُفْتُوا في هذا العصر بإدخال الأُرْزِ، مع أنه لم يَرِدْ بين الأصناف الواردة فيالحديث؟ إن أي حجة أو مسوغ يلتمسونه لإدخالالأرْزِ، هي نفسها حجة لإدخال النقود التي تجلب للفقير الأنواع الخمسة ذاتهاوالأرْز وغيره أيضًا، مما يكون في بعض البلاد هو النوع الأساسي في غذائهم، ففي بعضبلاد أفريقية اليوم يعتبر المَوز هو خبزهم وأرزهم، ويجفِّفونه ويتموَّنونه، كمايَتَمَوَّنُ غَيْرُهم القَمْحَ والشَّعير.
أسأل الله ـ تعالى ـ الهداية إلىسواء السبيل، وأن يُبصِّرَنا في شريعتنا بالبصيرة المنيرة التي تُجنبنا التضييقوالتساهل، فإن التضييق تشويهٌ، والتساهل تضييعٌ، وأن يرزقنا التقوى، فإنها الحفاظلميزان الاعتدال، إنه سميع مجيب. والله أعلم