بل صدور أول ديوان لأشعار أرسيني تاركوفسكى الوجدانية " تساقط الثلج" عام 1962 ذاع صيت مؤلفه ضمن خبراء وهواة الشعر بصفته مترجما مبدعا لاشعار شعوب الاتحاد السوفيتي منح حياة جديدة الى ملحمة شعب كاراكالباكيا"اربعون فتاة" . كما انه أطلع القارئ السوفيتي على ديوان ابي العلاء المعري "اللزوميات". وادرج اسم أرسيني تاركوفسكي في قائمة أولئك الذين قاموا بتأسيس ظاهرة ادبية وعلمية فريدة من نوعها أطلقت عليها تسمية "مدرسة الترجمة الادبية السوفيتية"، وذلك الى جانب اساتذة مثل كورني تشوكوفسكي وصموئيل مارشاك وبوريس باسترناك وغيرهم من الشعراء المترجمين. واعقبت الديوان الاول دواوين اخرى. وبينها "النبي" عام 1969 و"اشعار" عام 1974" و"الجبال السحرية" عام 1978 و"النهار الشتوي" عام 1980 و"المختارات " وغيرها.
وبدا ان أرسيني تاركوفسكى قد دخل الادب بكونه استاذا قديرا فتحت امامه على مصراعيها رحاب الشعر الروسي وامكاناته. غير ان سنة 1929 التي شهدت اول تجاربه الشعرية اعادت الى اذهان القارئ ان ديوانه الاول نتاج العمل المتفاني والتأملات الفلسفية على مدى سنين عديدة .
عاش ارسيني تاركوفسكي اجواء الشعر والفن منذ ايام طفولته الباكرة. اذ انه ولد عام 1907 بمدينة يليزفيتاغراد في عائلة ثوري روسي امضى فترة طويلة في المنفى بمدينة إركوتسك في سيبيريا. وكان اقرباء تاركوفسكي كلهم يقرضون الشعر بمن فيهم والده الذي كان يتقن سبع لغات اوروبية بالاضافة الى لغتين عريقتين. وكانت امه من هواة الشعر وقد غرست في نفس أرسيني حب أشعار كل من بوشكين وليرمونتوف وبايرون وغوته و باراتينسكي وتيوتشيف وفيت وغيرهم من الشعراء الروس والاجانب البارزين. فغدت خدمة الادب المغزى لحياة تاركوفسكي عقب ثورة عام 1917 في روسيا.
انتقل الشاعر عام 1925 الى موسكو حيث درس في دورة الاداب العليا لدى اتحاد الشعراء. وكان ينشر اعماله الشعرية الساخرة الاولى بجريدة "غودوك" التي كانت تقدم منبرها آنذاك للكتاب البارزين مثل ميخائيل بولغاكوف ويوري أوليشا و فالنتين كاتاييف وإيليا إيلف ويفغيني بتروف. ثم عمل أرسيني تاركوفسكى محررا في الاذاعة السوفيتية ورئيسا لقسم الادب في معهد للبحث العلمي. وكان ينظم اشعاره في كل مكان وكل زمان وحتى إبان الحرب حين خدم في هيئة تحرير صحيفة عسكرية. وكان الوحي الشعري يرافقه طوال حياته، الا ان اشعاره لم تنشر الا مرة واحدة في عام 1946 حين سمح له بطبع ديوانه . ولكن ما ان بدأت دار النشر في اعداد هذا الديوان حتى اتخذت اللجنة المركزية للحرب الشيوعي قرارا بخصوص مجلتي "زفيزدا" و"لينينغراد" تضمن اتهام كل من آنا اخماتوفا وبوريس باسترناك وميخائيل زوشينكو وغيرهم من الشعراء والادباء البارزين وبضمنهم ارسيني تاركوفسكي بانحرافهم عن مذهب الواقعية الاشتراكية. وحرم على تاركوفسكي وسواه نشر مؤلفاته الشعرية او كما يقال وجهوا الى الترجة الادبية بما يشبه المنفى او بالاحرى فرض القيود على ابداعهم اذ لا يسمح لهم الا بترجمة ابداع الادباء الاخرين . وظل ارسيني تاركوفسكي في منفاه الابداعي طوال 15 سنة . وعكف على ترجمة الشعر الشرقي بما فيه شعر ابي العلاء المعري. ولم يكن ارسيني تاركوفسكي بالطبع يتقن اللغة العربية. وكان المستعربون يترجمون له معاني قصائد الشعراء الشرقيين ترجمة نثرية يعتمدها تاركوفسكي في نظم اشعاره التي سميت عند نشرها ترجمة اشعار تشافشافادزي و ترجمة أشعار ابي العلاء المعري وما الى ذلك. وتطرق ارسيني تاركوفسكي الى هذا الموضوع في قصيدته "المترجم" واصفا مهنة المترجم الادبي بما يلي:
" لماذا بِعتُ خيرة سنوات عمري
في خدمة ابداع الآخرين!
آه من ترجماتي الشرقيةِ!
انها اكبر صداع لرأسي! ..
وعلى الرغم من ان ارسيني تاركوفسكي اعتبر ترجمته للاشعار الشرقية بمثابة سجنه المعنوي فان التفاعل مع الثقافات والحضارات الاخرى وذهنية الشعوب الاخرى في شتى مراحلها ساعده على اغناء عالمه الروحي والنفسي بالجديد من المواضيع الرؤى.
ويرتبط مصير أرسيني تاركوفسكي واندريه تاركوفسكي لا بكونهما ابا وابنا فحسب بل بأنهما شاعران اشتهر اولهما بنظم الشعر وثانيهما باخراج الافلام السينمائية الحافلة بالروح الشعرية السامية. وليس من قبيل الصدفة ان اندريه طلب تاركوفسكي من والده إلقاء احدى قصائده في فيلمه " طفولة ايفان" ثم سمعنا قصيدة ابيه الاخرى في فيلمه "المرآة" بلسان احد ابطال الفيلم:
"لست اخشى لا من الوشاية ولا من السم
لست أهرب
فلا وجود للموت في هذا العالم
كل شيء أبدي أبدي
لا يجب أن نخشى الموت لا في السابعة عشرة ولا في السبعين
توجد فقط حقيقة ونور
لا ظلام لا موت في هذا العالم
ونحن الآن جميعاً على الشاطئ البحري
وأنا أحد الذين يختارون شباكهم
عندما تمر الأبدية أسراباً..."( ترجمة صحيفة "الثورة اليومية السياسية السورية7 /5/2008)
توفي ارسيني تاركوفسكي يوم 27 مايو/آيار 1989 . واتخذت بلدية موسكو قرارا بتخليد ذكرى تاركوفسكي الاب وتاركوفسكي الابن بأنشاء متحف مشترك لهما عام 2010 بموسكو.
إعداد وترجمة: يفغيني دياكونوف