آخر تحديث [11:05]
إعداد وترجمة يفغيني دياكونوف
لا يحتاج اسم يوسف برودسكي الى التعريف به لا لكونه حائزا على جائزة نوبل للاداب فحسب ، بل ولكونه معروفا لعشاق الشعر الروسي الحقيقي منذ ظهوره في الافق الشعري في مطلع الستينات حيث شغل مكانة ثابتة في صف شعراء مدينة بطرسبورغ الى جانب زملائه المبدعين مثل
آنا اخماتوفا و
اوسيب مندلشتام وغيرهما. وليس من قبيل الصدفة ان يكون برودسكي ضمن النخبة من اولئك الذين احاطوا باخماتوفا في آخر ساعات حياتها ، وكأنها تباركه قبل انتقالها الى الآخرة وتوحي له ان يواصل حمل رسالتها الشاقة.
ولد برودسكي في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ) عام 1940 في عائلة مصور فوتوغرافي يخدم في القوات البحرية السوفيتية. وكانت امه مترجمة. وصادفت طفولته سنوات الحصار الذي احكمته القوات الالمانية الغازية على لينينغراد اثناء الحرب العالمية الثانية والذي اودى بحياة مئات الالوف من أهاليها. لكن الشاعر لم يتذكر ابدا واقع معاناته في تلك الفترة كما فعل ذلك معظم اقرانه.
لم يكمل برودسكي الثانوية مفضلا الدراسة الذاتية على المواد المفروضة عليه والتحق بمصنع عسكري حيث اشتغل عاملا. وفي هذه الفترة بدأ نظم الشعر.
ورغم ان برودسكي لم ينظم شعرا سياسيا ينتقد النظام السوفيتي فان استقلال قصائده شكلا ومضمونا ، ناهيك عن تحديه في التصرف ، أثار الامتعاظ لدى ممثلي الرقابة الايديولوجية السوفيتية الذين اقاموا محاكمة له واتهموه بالاتكالية. وقبل ذلك فرضوا عليه العلاج الاجباري في مستشفى الامراض النفسية. وحكم عليه بالنفي الى منطقة ارخانغيلسك الشمالية لمدة خمس سنوات. ومما يستحق الاحترام تصرفه في جلسات المحكمة حيث دافع عن حقه بنظم الشعر من دون ممارسة اي نشاط اجتماعي. وبفضل احدى كاتبات العدل التي سجلت محضر تلك المحاكمة المهينة ذاع صيت برودسكي في الاوساط الواسعة للمثقفين السوفيت وحتى خارج البلاد حيث صدر ديوانه.
ووجه بعض الكتاب والفنانين السوفيت مثل
دميتري شوستاكوفيتش وأخماتوفا وغيرهما رسائل إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي واتحاد الكتاب السوفيت، طالبوا فيها الافراج عن برودسكي .
كتب برودسكي في احد اشعاره:
ادخلت في قفص كأنني وحش
وحفرت بالمسمار على جدار اسمي
وما تبقى لي من ايام المحكومية
وعشت على ساحل البحر ولعبت القمار
وتناولت الطعام مع اشخاص مرتدين البدلات الرسمية
وشاهدت نصف الدنيا من فوق قمة الجليد
وكدت اغرق ثلاث مرات وأصبت بجروح مرتين
هاجرت من البلد الذي اطعمني
ويشكل عدد الذين نسوني سكان مدينة
تجولت في سهوب تتذكر صرخات الهون
وارتديت ما تحكم به الموضة
كنت ازرع القمح الاسود وأنشئ عنابر
كنت أشرب من كل سائل ما عدا الماء اليابس
وكانت عيون السجانين تزورني في المنام
واكلت خبز المهجر دون ان اترك قشرته
واطلقت كل الاصوات ما عدا العواء
ثم انتقلت الى الهمس.
لقد بلغت من عمري الاربعين
فماذا افعل بحياتي ، يظهر انها طالت
لا اشعر بالتضامن الا مع الفجيعة
لكن فمي سينطق بالشكر
الى ان ُيسد بالتراب
وقضى برودسكي 18 شهرا في المنفى ثم أطلق سراحه. وسمح له بالعودة الى بطرسبورغ. واصر بعض الشعراء على ان ينشر قصائده الثماني في مجلة "يونوست" السوفيتية. فوافق رئيس تحرير المجلة على نشرها. لكنه طلب حذف قصيدة واحدة منها. فرفض برودسكى وقدم بعد ذلك طلبا بمغادرة البلاد. وسمحوا له بذلك. فهاجر الى الولايات المتحدة حيث تأقلم بسرعة شأنه شأن الكاتب الروسي الامريكي المشهور فلاديمير نابوكوف مؤلف قصة "لوليتا" المعروفة عالميا ، حتى صار ينظم الشعر بالانجليزية. وانتخب برودسكي عضوا فخريا في اكاديمية الفنون الامريكية. لكنه انسحب منها احتجاجا حين عرف ان الشاعر السوفيتي يفتوشينكو قبل عضوا فيها ايضا.
ومما يميز شعر برودسكي اسلوبه الفريد من نوعه ونقل القوافي من سطر الى آخر، الامر الذي يشكل ايقاعا خاصا لا يمكن ان يتكرر لدى اي شاعر آخر. كان برودسكى مفتوحا على خبرة الشعر العالمى كلها. وكتب في مذكراته انه كان يتنافس مع الكبار من الشعراء العالميين ، وكان يبدأ حيث انتهوا. ومن اولوياته الابداعية تغلب الجمالية والايقاع على المعنى. ويعود اسلوبه الشعري الى شعر بطرسبورغ، إذ واصل فيه تقليدا كان يتبعه كل من اوسيب مندلشتام وآنا أخماتوفا ناهيك عن بوريس باسترناك ، حتى كان يتنافس معهمم في ابداعه مما تجلى مثلا في قصيدته "نجمة الميلاد" حيث كتب:
في الفترة الباردة وفي منطقة تعودت على القيظ
أكثر من البرودة وعلى ارض مستوية لا مرتفع
ولد رضيع في مغارة لينقذ العالم
وكانت عاصفة هوجاء لا تشهدها الصحراء الا شتاءً
بدا له كل شيء ضخما: صدر امه والبخار الاصفر
المنطلق من خيشومي الثور
والمجوس بلتزار وكسبار وميلتشور
وهداياهم التي جلبوها الى هنا
وانه كان مجرد نقطة
وكانت النجمة نقطة اخرى
حملقت في المولود الراقد بالمهد
دون ان تنبض خلل سحب نادرة
تطلعت النجمة الى المغارة
وكانت هذه النظرة نظرة ابيه.
يمكن ان يقارن القارئ هذه القصيدة بقصيدة بوريس باسترناك التي تحمل التسمية نفسها. لكن الفرق بينهما يكمن في ان قصيدة باسترناك تظهر فيها نجمة واحدة. فيما تظهر في قصيدة برودسكي نقطتان هما النجمتان للرب وابيه.
لا يجد القارئ في اشعار برودسكى وحتى في ترجماته مواضيع الحب والغرام الا ما ندر ، بل تتصف قصائده ببعد ميتافيزيقي يسود فيه موضوع الزمن. وصرح برودسكي في احدى المقابلات الصحفية ان كل قصائده تكاد تكون في موضوع الزمن . وكان طوال عمره يبحث عن سر الزمن ولم يكتشفه في اشعاره.بيد ان ألبرت اينشتاين فشل ايضاً في ذلك. اذ انه اتضح مؤخرا ان سرعة ضوء الشمس ليست قيمة ثابتة ويمكن تعديها. لكن يوسف برودسكي ترك لعشاق الشعر بضعة قصائد قد يكون بوسعها جعل الزمن يسير
في اتجاه معاكس. ومن ابرز تلك القصائد "المرثية الكبرى لجون دون" التي يصب الزمن فيها مثل الماء من إناء الى آخر واذا توقف فيتوقف بالنسبة الى اي شيء سواء أ كان إنسانا او طيرا او جبلا.
توفي يوسف برودسكي في امريكا عام 1996. لقد طرده وطنه ولكن لم يحب موطنه الثاني. كتب برودسكي في احدى قصائده :
لا اريد اختيار بلد ولا مقبرة
ساحضر الى جزيرة فاسيليفسكى لأموت فيها.
لكنه لم يحضر الى مسقط رأسه ، لان ما من احد يعود الى مكان اهين فيه ،كما قال هو نفسه. واختار مكانا آخر يدفن فيه وهو مدينة فينيسيا الايطالية.
مرثية كبرى لجون دون...
ترجمة وتقـديم: بـُرهـان شـاوي
لقـد رقـد جون دون، ومن حـوله رقـدت الأشياء كلها:
الجـدران، الأرضيـة، الشراشف، اللوحـات،
الطاولة، السجا د، مزاليج الأبواب، المحجن،
مشجب الملابس، الخزانة، الشموع والستائر.
كلها رقـدت، القنينة، الأقداح، الطسوت،
الخبز، سكينة الخبز، أواني الخـزف،
الكريستال والصحون، قنديل النوم، الغسيل، خزانات الملابس،
الزجاج، الساعات،
درجات السلم، الأبواب..فالليل في كل مكـان.
في كل مكان ليل، في الزوايا، في العيون، في الملابس،
بين الأوراق، على طاولة الكتابة، في الكلام المنمق،
في مفردات الكلام، في الحطب، في ملقط الفحم،
في حجر الموقد المطفأ، في الأشياء كلها.
في الجلابيب، في القباقيب، في الجوارب، في الظلال،
خلف المرايا، في الأسرة، خلف المقاعد،
ومرة أخرى في الطسوت، في الصلبان، في الملاءات،
في المكانس أمام الباب، في الأحذية، كل الأشياء رقـدت.
لقد رقـدت كل الأشياء، النافذة، الثلج على النافذة،
السقوف المجاورة بيضاء الانحدار،
قممها مثل شرشف المائدة،
كل سكان الحارة رقـدوا، فأطر النوافذ المحطمـة مـوات.
القناطر المقوسة، الجدران، النوافذ، رقدت جميعها،
الأرصفة، جذوع العتلات الخشبية، القضبان وأحواض الزهور،
لا ضـوء يومض، وليست هناك عجلات تصر،
الأسوار، الزخارف، السلاسل، الأوتاد.
لقد رقدت الأبواب، الخواتم، الأيدي، المحاجن،
الأقفال، المزاليج، المفاتيح، والمقابض،
لا همسات، لا حفيف، لا طرقات تسمع،
لاشيء سوى خشخشة الجليد، فالكل يرقـد.. والفجر بعيد.
لقد رقدت السجون، القلاع.. كما رقدت كل
أدوات حانوت السمك، رقدت جثث الخنازير،
البيوت، خلفيات البيوت، رقدت الكلاب البرية،
وفي المخابيء رقدت القطط بآذان مرهفة السمع.
الفئران رقدت، الناس، وكذلك لندن رقدت في سبات عميق،
وفي الميناء رقد مركب شراعي، الماء وكذا الثلج
الذي يبُح في جوفه ليصب بعيدا
في الأقاصي مع السماء البعيدة.
لقد رقـد جـون دون، وقـد رقـد البحـر معه،
الساحل الطباشيري رقـد عند حافة البحـر،
كل الجـزر رقـدت متطوقة بذراع الـرقاد،
بينما أغلقت كل حـديقة بثلاث أقفـال.
الدردار، الزان، الشربين، الصنوبر، رقـدت كلهـا.
منحدرات الجبال، الجداول على المنحدرات،
وسبل الجبال رقدت كلها.
وكذا الثعالب والذئاب رقـدت، الدب رقـد في الفراش،
بينما غطت كثبان الثلج مداخل الجحـور.
الطيور رقـدت، فلقد إنقطعت عن الشدو،
نعيق الغربان لم يسمع، ولم يعـد ضحك البـوم يسمع أيضا،
الأفق الإنكليزي هـاديء،
تلألأت نجمـة، بينما ذهب الفأر للاعتراف بخطـاياه.
الأشياء كلها رقدت، ففي قبورهم رقـد المـوتى جميعهم،
رقـدوا بسكون، وعلى الأسرة رقـد الأحياء في بحر قمصانهم،
فرادى، غارقين في لجو النوم، رقـدوا بـذعـر.
كل الأشياء رقـدت، الأنهـار رقـدت، الجبال، الغابات،
الوحوش، الطيور، عالم الجماد، والأحياء،
ليس هناك سوى الثلج المتساقط من قبضة الليل،
والذي سوف يرقـد عـلى الرؤوس.
الملائكـة رقـدت، والقديسون رقـدوا، تاركين العالم
المليء بالمخاوف في رقـدة للعار المقـدس.
جهنم رقـدت والفردوس البهي كذلك،
ليس هناك من لا يرقد في بيته بمثل هذه الساعة.
الرب قـد رقـد، فالأرض غريبة الآن،
فالعيون لا تبصر، والآذان لا تصغي،
الشيطان قـد رقـد ومعـه رقـدت البغضاء
على الثلج في حقول إنكلترا.
الفرسان رقـدوا، الملاك ونفيره أيضا،
الجياد قد رقـدت، إنها تعدو في النوم،
حتى أسراب الملائكـة المتحاضنة رقدت
تحت قبـة كنيسـة بولص.
جـون دون قد رقـد، ومعه رقـدت القصائد،
الصور، القوافي.. القوية منها
والضعيفة قد اختفت، أما الشتائم، الحنين، الآثام،
فقـد رقـدت كلها داخل حـروف كلماتها.
كل قصيدة بالنسبة للأخرى، مثل أخت،
وعلى الرغم من إنهن يتهامسن فيما بينهن،
فكل منهن ترتج قليلا.
إنهن بعيدات عن بوابات السماء،
إنهن فقيرات، كثيفات، صافيات، مليئات بالتماسك.
السطور ترقد بعمق، و (اليامبو) انتفخ بشدة،
و (التراخيات) رقـدت واقفة من على الجانبين، مثل العسس،
وفيهما رقدت رؤى النسيان،
وخلفهما ثمة شيء آخر رقد بعمق... إنـه المجــد.
لقد رقـدت الهموم جميعها، والمعاناة أيضا،
رقد النــوم، وتعانق الخير والشر،
الأنبياء رقـدوا، وشلال الثلج المنهمر
يبحث عن بقع سوداء صغيرة في رحاب المكان.
الكل قـد رقـد، وقد رقـدت أيضا ضجـة الكتب،
رقدت أنهار الكلمات، وتلك التي غطيت بثلج النسيان.
لقد رقدت اللغـات كلها، ورقدت معها
الحقائق التي تتضمنها،
لقد رقدت السلاسل التي تربطها ببعضها، فبخفـوت تقلقل حلقاتهـا.
الجميع رقدوا في سبات عميق، القديسون،
جميع زبانية الجحيم، الحواريون، أطفالهم،
لا شيء سوى الثلج المنهمر على ظلمة الطريق،
فما من نأمة تسمع في هذا الكـون الفسيح.
ثم مـاذا..! هـل تسمع..؟
هناك في الظلمة الباردة يبكي إنسان،
إنه يهمس خوفـا،
ثمة أحد تُرك لـرحمة شتائه،
إنه يبكي.. في الظلمـة ثمـة أحـد.
صـوت نحيل، نحيل مثل إبرة بلا خيط،
وحده يتخبط في الثلج،
البرد في كل مكان..
إنه مثل إبرة استطاعت أن تخيط
من الليل وحتى الفجر، وبمثل هذا العلو..!
(من ينتحب هناك؟ أهذا أنت يامـلاكي تنتظر الرجوع،
تبحث في الثلج، مثل الصيف ينتظر عودة حبـي؟
أتذهب في حلكة الظلام إلى البيت؟
وهل هذا أنت من يصرخ في الظلمة؟).. لا جـواب.
(أهؤلاء أنتم ياملائكتي؟ فهذا الغناء الجماعي الحزين
ذكرني بجوقـة الندابات..
وهـل قـررتم أيها الراقدون مغادرة كنيستي فجـأة؟
أهـؤلاء أنتـم؟).. صمـت.
(أهذا أنت يابـولص؟ لقد إخشوشن صـوتك
من كثرة الحديث المتزمت،
أهذا أنت الذي طأطأ رأسه الأشيب هناك في الظلمة الدامسة باكيا؟)
لاشـيء سوى صـدى الصمـت.
(أهذه هي اليـد التي حجبت الـرؤيا..
والتي تضـيء كل مكان هناك مثل الفنـار؟
أهذا أنت أيهـا السـيد؟ ربما أفكاري متوحشة..
لكن النشيج الباكي اشتد علوا..).. صمت.. سكون.
(أهذا أنت يا جبريل قد نفخت في البوق..
ومن يا ترى ينبح هناك عاليا؟
أترى أنا الوحيد الذي فتـح عينيه، بينما أسرج الفرسان جيادهـم؟
الكل يرقـد بعمق تحت قبضة الظلام القوية..
بينما السعاة اقتربوا من ضجة السماء..
أهذا أنت يا جبريل، حاملا بوقك، تنتحـب وحيدا هنـاك؟
في هذه الظلمـة، وفي عـز الشتاء؟).
لا.. هذا أنا، جـون دون، أنـا روحـك..
إنني أقيم مـأتمـا في أعالي السماء..،
لأنني بإبداعي خلقت أفكارا
ومشاعر ثقيلـة مثل القيـود.
وأنت، بهذا الحمل الثقيل استطعت الطيران
وسط المعاناة والأثام.. بل حلقت أعلى من ذلك..
لقـد كنت طيرا لذا رأيت شعبك،
لقد حلقت فوق كل الأماكن وفوق كل السقوف.
لقد رأيت كل البحار، وكل الأقاصي..
لقد حدقت إلى الجحيم في أعماقك، ومن ثم
رأيتها في اليقظـة!!
مثلما في اليقظة رأيت الفـردوس بوضوح،
مثلما في أشد صوره حزنا.
لقد رأيت الوجود كأنه جزيرتك..
كما حدقت بهذا الأقيانوس العظيم..
الظـلام يحيط بكل الجهات.. ليس هناك
غيرالظـلام والبكـاء..
لقد طاردت الرب نفسه، ورجعت متقهقرا.
لكن هذا الحمل الثقيل يعيقك عن التحليق..،
حيث العالم ليس سوى مئـة بـرج،
وأنهار كالأشرطة، وحيث عند النظر إلى الأسفل
يبدو حتى يوم القيامة ليس بهذا الرعب!!!!
ومن تلك البلاد حيث لا يتغير الطقس،
فكل شيء من هناك يبدو كحـلم كسيح..
حيث الرب يبدو من هناك ليس سوى بصيص النور
القادم من نافذة البيت الأخير الغارق في ضباب الليل.
والحقول تمتد هناك، حيث لم يمسها محراث قط..
ليس منذ سنين وإنما منذ قرون..
وليس هناك سوى الغابات تقف مثل سور ملتو..
وما من شيء سوى المطر يرقص فوق الأعشاب العالية.
وهناك الحطاب ذو الجواد الضامر
يعدو تائها في أدغال الخوف..
يرى فجأة، بعد أن تسلق شجرة الصنوبر،
النار في واديه، هناك في البعيـد.
كل شيء، كل شيء بعيد، وهنا النواحي مجهولة..
والنظرة الهادئة تتسلق السقوف البعيدة..
ثمة ضـوء شديد، هنا لا يسمع المرء نباح الكلاب..
لا ولا يسمع قرع الأجـراس.
لكنه سيدرك أن كل شيء بعيـد..
وسيقود حصانه عجـلا إلى الغابة ثانية..
وهنا..الزمام، عربة الجليد، الليل، وهو نفسه،
والجواد البائس سيسمونها رؤيــا من رؤى الإنجيـل.
وهكذا، ها أنا أبكي، أبكي.. لا أرى أي طـريق..
لقد قُـدر لي أن أعود إلى الأحجـار..
فلقد حـرمت من العـودة إلى هناك طـائرا..
إذ قـُدر لي أن أعـود إلى هنـاك ميتـا فقط.!!
نعـم.. نعـم، وحيدا، بعد نسيانك يا عالمي..
على الأرض الرطبة المنسية، لكي
تسبح فيك بقايا الرغبات، بألم
كي ترفو الفـراق، أثناء نومها.
ببكـائي أقلقت هدوءك.. أصغ..
سقط ثلج نقي في عتمة الظلام..
مادا الوشيجة ليرفو فراقنا..
بينما تطير الإبرة للأمام وللوراء دائبة الحركـة.
لست أنـا..، وإنـما أنت..
لستُ أنـا، وإنما أنت ياجـون دون من ينتحـب،
أنت ترقـد وحيـدا، بينما الصحـون ترقـد في الدولاب..
طالما الثـلج ينهمر على البيت الـراقد..؛
وطالما الثـلج ينهمـر من هناك على الظـلام.
مثل طائر يـرقـد في عشته..
له دروبه النقية وأحـلامه بحياة كريمـة..
واثقـا إلى الأبد بالنجـوم التي
تختفي الآن خلف الغيوم.
مثل طـائر طـاهر الـروح،
برغم الطرق الأرضية المكتظة بالخطـايا،
إنه أكثر عفوية من أعشاش الغربان
على بيوت الزرازير الرمادية الفارغـة.
ذاك الشبيه بالطـائر، يستيقظ صبـاحا،
إنه يرقـد الآن تحت ملاءات بيض..
مادام الثلج والحلم ينسجان المسافة
بين روحه وجسده الـراقد.
كـل الأشـياء رقـدت، لكن ثمة إثنتين أو ثلاث قصائد
تنتظر النهاية شامتة، بأفواههـا الدرداء، من أن الحب الجسدي
مثل واجب المغنية.. بينما الحب الروحي هو وليمة الكـاهن.
وسواء كان حجر الطاحونة الذي جداره المـاء..
فإنه سيطحن في كل مرة الحبوب نفسها..
وإذا ما أقتسم أحـد الحياة معنـا..
فمن ذا الذي سيقتسم المـوت معنـا؟؟
في الوشاح ثقـب، يشده من يشاء إلى كل النهايات،
يذهب، ويعود ثانية، يشده مرة أخرى،
ليس سوى قبة السماء
تأخذ أحيانا في عتمة الظلام ما حاكته الإبـرة..!!
نـم.. نــم يا جـون دون.. ارقــد ولا تتعب نفسـك..،
فالمعطـف مثقوب.. مثقـوب.. إنه يتهدل هناك على المشجب..
انظـر إليـه.. وأبحـث من خـلل الغيـوم
عـن نجمتـك التي حـرست عـالمك كل هاتيك السنين؟!