أحياناً ما تكون التفاصيل أفضل من الحدث نفسه.. ليس أحيانا بل دائما ما تكون التفاصيل أهم وأكثر إثارة من الحدث نفسه.. أن يدخل الرئيس مبارك إلى مستشفى ألمانى لإجراء جراحة بالحوصلة المرارية، اللى هى عملية المرارة بالمصطلح الشعبى، فهو فى النهاية إنسان يمرض ويدخل إلى غرف العمليات ويتعاطى الأدوية بحبوبها وشرابها وحقنها، ولا تستدعى جراحة الرئيس كل هذا التطفل الذى ظهر واضحا فى الصحف الخاصة والحكومية التى »تفذلكت« فى معالجة الحدث وبدأ البعض فى تحليله والحديث عن توابع الجراحة وكأنه العالم ببواطن الأمور غافلاً عن أنه يتحدث عن جراحة تجرى فى العيادات غير المجهزة ألف مرة فى اليوم ولا تستدعى تلك الضجة، هذه «الفذلكة» التى ظهرت فى بعض المعالجات كانت فى رأيى مفتعلة وضرورية لعدد كبير من رجال الصحافة والإعلام فى محاولة للتغطية على حالة الارتباك التى سقطوا فيها خلال اليوم الأول من زيارة الرئيس لمستشفى «هايدلبرج» أو تحديداً خلال اللحظات الأولى التى بثت فيها وكالات الأنباء الرسمية الخبر مقتضباً.
يمكنك أن تعتبر ما هو مكتوب فى تلك السطور السابقة والقادمة نوعاً من الخيانة المهنية، ولكن اسمح لى أن أعتبره متابعة للتفاصيل التى لم تظهر على الشاشات وصفحات الجرائد.. بدأ الأمر بمكالمة جرت بالصدفة مع أحد الأصدقاء العاملين بصحيفة قومية وجرنا الحديث للكلام عن خبر إجراء الرئيس جراحة استئصال الحوصلة المرارية ليحكى لى الصديق تفاصيل حالة الارتباك التى سادت صحيفته مع ظهور الخبر وحالة الذعر التى انتابت من تعاملوا معه، بين الرغبة فى النشر وبين الاستئذان فى فعل ذلك وبين شكل وطريقة النشر، نفس السيناريو سمعته من أصدقاء آخرين يعملون فى صحف خاصة وبرامج توك شو شهيرة، وحتى الآن قد يبدو الأمر لك عاديا إذا كنا نتحدث عن إعلام تزيد وتقل حرياته حسب المقدار الذى تفتح به الحكومة حنفية الحرية، ولكن ماتقوله التفاصيل السابقة أخطر بكثير من مسألة أن السادة فى الصحف الخاصة أو الحكومية لم يعتادوا على تلك الشفافية وأن الدولة للمرة الأولى تتعلم من أخطائها. ماتقوله التفاصيل مثير لأنه كشف النقاب عن إعلام مرتبك وخائف ومضطرب ولا يعرف كيف يعالج مايقدمه للناس ويحتاج لأن تمطر له السماء إشارات اطمئنان لكى يبدأ هو فى التحرك، ماتقوله التفاصيل أننا أمام منظومة إعلامية لم تنجح فى إفراز مصدر معلومات يتمتع بالثقة حتى وكالتها الرسمية حينما نشرت خبر إجراء الرئيس للجراحة وضعت المعلومة فى ذيل تقرير سياسى عن زيارته لألمانيا وكأنها مكسوفة تقولها، أو إن شئنا الدقة تخشى ألا تعجب طريقة النشر المسئولين الذين أبلغوهم بالخبر.
هذا الارتباك الإعلامى والفذلكة الساخرة فى التعامل مع رحلة الرئيس العلاجية، يقول أشياء كثيرة ربما أهمها ظهور تأثير سنوات القمع وكبت الحريات بدرجة جعلت الوسط الإعلامى غير قادر على التعامل مع خبر نشرته الوكالة الرسمية، وأخطرها أننا أمام منظومة إعلامية لم تتعلم بعد احترام الحريات الشخصية للآخرين بدليل حالة السخرية السخيفة التى استخدمها البعض للتعامل مع الإعلان الرسمى عن زواج رئيس الوزراء والإعلان الرسمى عن جراحة الرئيس.. والأخطر من هذا وذاك أننا أمام منظومة إعلامية لم تعد نفسها جيدا للتعامل مع الدولة وهى تتعلم من أخطائها وتغلق فى وجه الإعلام المعارض منافذ الأخطاء الساذجة التى كان يصطادها من خلالها.