يشهد التاريخ بعض اللحظات الحاسمة التى لا يمكن التنبؤ بها، ولكنها تكشف عن حقيقة الرجال.
تحمل هذه اللحظات معها كل شىء، الخوف والعقل، وربما تكون واحدة من تلك اللحظات هى التى يعيشها اليوم محمد البرادعى، الذى كان عليه الانتظار سبعة وستين عاما حتى يصبح ما هو عليه اليوم: "متمرد" يجرؤ على تحدى نظام الرئيس مبارك ويعتزم ترشيح نفسه كمستقل فى الانتخابات الرئاسية لعام 2011.. هكذا قدمت صحيفة "لوجورنال دى ديمانش" الفرنسية لتقريرها التى التقت خلاله مع الدكتور البرادعى فى القاهرة.
تقول الصحيفة إن الديكور الفاخر والهدوء والفخامة التى تتميز بهم فيلا الدكتور البرادعى القريبة من أهرامات الجيزة لا يجب أن تخدع الأذهان، ففى هذا المكان هناك حركة ديمقراطية ناشئة فى طريقها إلى أن ترى النور.. والبرادعى هو حامل لوائها، على الرغم من أنه لايزال يقسم قائلا: "لم أكن أتوقع على الإطلاق كل ما يجرى".
وتتساءل الصحيفة ما هو هذا الشىء الذى لم يكن يتوقعه؟ إنه هذا النداء الذى أطلقه الشباب المصريون لدعوة البرادعى للعودة إلى مصر وترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة، حيث أوضحوا له أن مصر لا يمكنها أن تظل خاضعة لسلطة الرئيس حسنى مبارك أو ابنه جمال، ولا لقانون الطوارئ الذى يسرى مفعوله منذ ثلاثين عاما. ونظرا لذلك، يبرر البرادعى أنه "كان من الصعب على أن أبقى صامتا"، ومن ثم فقد أعلن إمكانية ترشحه "ولكن بضمان أن تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة".
ومن ثم، عندما عاد إلى القاهرة فى أواخر فبراير، جاء حشد من الناس المتحمسين للترحيب به عند نزوله من الطائرة. وبسرعة فائقة تم تنظيم أولى الاجتماعات فى فيلته، فى غرفة المعيشة، كما تشير زوجته عايدة التى تروى أنها قد اضطرت إلى شراء مقاعد بلاستيكية ليتمكن الجميع من الجلوس، مثقفون وفنانون وأعضاء من أحزاب المعارضة، جميعهم يشاركون فى مناقشات ساخنة، ولكنهم يجتمعون حول فكرة واحدة: لا يمكن للتغيير أن ينتظر أكثر من ذلك، وأن البرادعى، المستقل، هو الذى سيجسده.
وتنقل الصحيفة عن البرادعى، "المعارض الجديد" كما تصفه، قوله: "الديمقراطية لا وجود لها فى هذا البلد.. عندما تشاهد الفقر الذى يسود فيها فى الوقت الذى نملك فيه مواردا كثيرة جدا، فإن ذلك يعنى وجود مشكلة فى الإدارة، ونحن لا يمكن أن نحقق العدالة الاجتماعية من دون تغيير النظام السياسى.. نحن بحاجة إلى برلمان قوى يمثل بالفعل الشعب، وكذلك قضاء مستقل، وتداول للسلطة".
وعلى الرغم من أن هذه المطالب ليست بجديدة، إذ نادى بها بعض المعارضين من قبله، ولكن أحدا منهم لم يؤخذ على محمل الجد، إلا أن البرادعى يرجع هذا الأمر إلى "أنهم ربما لم يكونوا يملكون مصداقيتى".
وفى هذا السياق تنقل الصحيفة رأى جورج اسحق فى البرادعى قائلا: "إنه ليس فاسدا، ويتمتع بقدر كبير من الاحترام، لقد ظللنا على مدى سنوات ونحن نتساءل من هو الشخص الذى من الممكن أن يجسد بديلا للرئيس مبارك، أما الآن نحن نعلم أن هذا الرجل موجود"، وهو الرأى الذى يشاركه فيه أحد المحللين الدوليين قائلا: "إن الانتخابات الرئاسية قبل البرادعى كانت مقتصرة على حسنى مبارك وابنه، أما الآن فقد تحول الأمر من منطق الخلافة إلى منطق الانتقال".
بيد أن البرادعى، كما تذهب الصحيفة، يلتزم بالحذر مثل القط العجوز أمام كل هذا الحماس.. فهو لا يعد بأنه سيكون مرشحا، بل يكتفى بالقول "إذا دعمنى الناس وتم تعديل الدستور، فسوف أفكر فى ذلك، ولكن ما يهمنى قبل كل شىء هو فتح الأبواب أمام الجميع وتغيير قواعد اللعبة".
وترى الصحيفة فى أسلوب خطاب البرادعى هذا شبهاً بينه وبين الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى استراتيجية حملته القائمة على "توسيع نطاق الاحتمالات"، وجعل "التغيير حقيقة محتملة"، كما تجد الصحيفة أيضا تشابها فى أساليب عملهما، لأن البرادعى "لا يحق أن يكون له مقر عام ولا أن يجمع الأموال"، وبالتالى فقد رأت ظاهرة البرادعى النور لأول مرة من خلال "الفيس بوك"، وقد وصل عدد الأشخاص الموجودين على الصفحة المخصصة له حتى اليوم إلى 250 ألف شخص.
كما أن البرادعى يبعث الآن برسائل عبر Twitter ويبدو أن هذا الأمر يسليه كثيرا، عندما يقول: "إن الرسائل التى أرسلها تحتل الآن عناوين صحف المعارضة"، وهنا تكمن المشكلة كما يرى الدكتور عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، "إذ إن (البرادعى) يعتقد أن من يدعمونه على مواقع الإنترنت يمثلون مصر بأكملها".
وتشير الصحيفة إلى أن البرادعى، الذى لا يستطيع أحد المساس به، لأنه بات محط أنظار وسائل الإعلام للغاية، يسبب ارتباكا لكبار رجال السلطة، حيث إن "الحكومة لم تكن تتوقع أن يأتى شخص مثلى، فلقد منحتنى الدولة وساما وأنا أُعتبر ابنا لمصر"، كما يقول البرادعى، وقد زاد سخط السلطات خلال الأسابيع الأخيرة منذ أن تحول هذا المرشح الافتراضى إلى خصم حقيقى، أى إلى حركة، من خلال تكوين الجبهة الوطنية من أجل التغيير وإطلاق حملة للانضمام إليها، وأصبح محمد البرادعى الآن يجوب مصر، ويزور المساجد والكنائس القبطية، كما حدث خلال عيد القيامة.
كما أن البرادعى لم ينف وجود محادثات بينه وبين الإخوان المسلمين، إذ يجد أن "ما بين 20٪ إلى 30٪ من الشعب يدعمهم، ومن ثم لا يمكن للمرء أن يتجاهلهم، وقد قالوا إنهم ليسوا مع إقامة دولة دينية وإنما دولة مدنية حديثة، وعلينا أن نصدق حسن نواياهم".
تخلص الصحيفة إلى أن ظاهرة البرادعى قد انطلقت بالفعل الآن، ومن ثم ماذا إذا نجح هذا الدبلوماسى فى الوصول إلى هدفه؟ أى إذا ترشح وتم بالفعل انتخابه؟ يتوقع أحد المحللين الدوليين أن يكون هذا الأمر "صدمة لبقية دول الشرق الأوسط، حيث أن معظم الأنظمة به تشبه النظام المصرى".
وماذا إذا حدث العكس؟ أى إذا رفض النظام تعديل الدستور؟ فى هذه الحالة، كما يشرح البرادعى: "سوف أقوم بدعوة أولئك الذين ساندونى لمقاطعة الانتخابات.. على أى حال، لا أعتقد أن حركتنا سوف تنتهى بانتخاب رئيس جديد، إذ إنه يتعين تغيير العقليات، على الناس أن تتعلم ما هى الديمقراطية، وسيستغرق هذا الأمر على الأقل جيلا بأكمله".