الجريمة بشعة وفوق طاقة أى بشر على الاحتمال، تلك التى اتهم بها المصرى المغدور فى لبنان، وأبشع منها جريمة قتله جماعياً تحت سمع وبصر وربما بتواطؤ رجال الشرطة، وأبشع من هذا كله أن يتم التمثيل بجثة القتيل ويجرى سحلها فى شوارع القرية فى أضخم عملية انتقام جماعية ضد جثة، لا حول لها ولا طول، مشاعر الاشمئزاز وحدها هى التى تسيطر على منذ تابعت تفاصيل ما جرى فى تلك القرية الجبلية فى جنوب لبنان.
أكثر ما أثار اشمئزازى وقرفى الكبيرين هى تلك المشاركة الجماعية فى عمل هو بالفطرة ضد طبيعة البشر العاديين، فكيف تشارك فيه هذه الجموع بكل هذه الوحشية أمام الكبير والصغير، وتساءلت: كيف زين لهم شيطانهم أن يقترفوا هذه الجريمة بهذا الشكل أمام أطفالهم، إنها عودة إلى شريعة الغاب، حيث الوحوش الكاسرة تأكل ضعفاء البهائم والسائبة.
بعيداً عن أن القتيل الذى مثل بحثته مصرى، لأنه لو كان من أى جنسية أخرى، لكنت شعرت بالإحساس نفسه، فالشاب بعد الموت سقطت عنه صفته كمتهم، بل سقطت عنه كل صفة، ولم يبق له غير صفته كإنسان يجب الحفاظ على كرامة جثته، والأديان جميعاً تحض على كرامة الجثة، والناس جبلوا على إكرام الميت، إذ يسقط بموته كل شىء، ويبقى له علينا حق الدفن.
أعرف أن العملية مدانة فى لبنان على مستويات كثيرة، وأن هناك مطالبات علنية بعدم التهاون مع الجناة المصرى الذى قتلوا المغدور، وأن هناك توصيفات للحادث تجعله فى مصاف المجزرة البشعة والعودة إلى قانون وشريعة الغاب والخروج على القانون والدولة، وأن هناك حديثا عن شكوك فى أن قتل محمد سليم مسلم قبل استكمال التحقيق، قضى على إمكانية التعمق فى التحقيق، والتوصل إلى حقيقة ما جرى فى حادث قتل أربعة لبنانين بينهم مسنين وطفلتين، وما إذا كان معه شركاء آخرون من عدمه.
ورغم ذلك أقول إن الحدث يكشف عجز النظام اللبنانى وتخلفه أكثر مما يكشف عن عجز الحكومة المصرية أو ضعفها فى حماية مواطنيها، ما حصل يقدم الدليل على أن لبنان، فى محنة حقيقية، ويشير إلى أنه بلد يعيش فى عصر ما قبل الدولة، وأن المجتمع تحكمه مقاييس العائلات والطوائف والمذاهب وتسرى عليه قوانينها، وأن القانون فى لبنان خرج ولم يعد، وأن الحكم للنفوذ الطائفى أو المذهبى، وأن الحماية والأمن توفرهما الطائفة وليس الدولة.
ومع كل حدث يكون بطله أحد المصريين فى الخارج يقفز إلى الواجهة ذلك الإحساس بأن المصرى أصبح رخيصاً فى بلده وفى الخارج على حد سواء، والناس يقارنون، والكلام يدور بينهم ويسألون إن بدلنا الشاب المصرى بأى شخص من جنسية عربية أخرى، هل سيحدث معه ما جرى للمصرى؟، والسؤال يحمل فى طياته إجابة تشير إلى أن دم المصرى رخيص عند حكومته، وأن كرامته لا قيمة لها عند أولى الأمر.
كثير من الناس سافروا إلى الدول العربية واحتك بعضهم بالسفارات المصرية فى الخارج ومشاكلهم معها أكبر من أن تحصى، ولذلك فأول ما يخطر ببالهم هو تجربتهم الشخصية مع إهمال السفارات المصرية، وهى فى معظمها تغلق أبوابها عن نصرة المصريين المظلومين، وربما تنظر إليهم نظرة أسوأ من نظرة الكفيل التى تتعامل بها بعض دول الخليج مع المصريين.
هذا الإحساس الطاغى عند المصريين بأنهم متروكين وحدهم بدون حماية، يطفو على السطح عند أول حادث من هذا النوع، فتسمع التعليقات من هنا ومن هناك تلعن الحكومة قبل أن تلعن الجناة، وتنعى حظوظها قبل أن تنظر فيما يجب عمله، وأصبح هذا هو سيستم أو طريقة تعاملنا مع كل حدث، فنصرخ ويعلو صراخنا ثم نهمد كأن شيئا لم يقع.
تعودنا على أن نقيم بازارات مجانية للمزايدة على كرامة المصريين فى كل حدث بدون تفريق بين خناقات كروية أو خلافات عائلية أو سلوكيات شخصية، واستسهلنا خلط الأمور بعضها فى بعض كأننا لم نعد قادرين على مناقشة أمر ما بدون أن نستدعى كل مشاكلنا مع الحياة فلا نصل إلى قناعة مشتركة حول الأمر المعروض علينا ولا نتخذ موقفاً ولا يبقى لنا غير العويل المستمر بدون فائدة.
وفى كل مرة ننساق إلى الانجرار فى الطريق الذى يرسمه أعداؤنا لنا، فيتحدث بعضنا عن أن ما جرى كان بمثابة الرد على الأحكام الصادرة فى حق ما سمى بخلية حزب الله، مع أن الواقعة جرت بتحريض معلن من أحد نواب تكتل المستقبل الذى يرأسه سعد الحريري، الذى كان فى يوم المجزرة فى ضيافة الرئيس مبارك لتهنئته على الشفاء.
المطلوب الآن ليس متابعة الصخب الذى اعتدنا القيام به عند كل حادث مماثل، لكن المطلوب هو أن تقوم الحكومة المصرية بدورها ومسئوليتها عن الحفاظ على حقوق كل مواطن مصري، وأتصور أنها فى هذا الحادث قامت حتى الآن بما يجب عليها القيام به ونحن فى انتظار أن تستكمل الطريق حتى نهايته