البرود الذى يتعامل به النظام مع ما حدث فى أوغندا قبل أيام قليلة ناجم عن أمرين: إما سذاجة سياسية، وإما جهل تاريخى! وكلاهما مر! وسأشرح ذلك تواً.
الكل يعرف أننا نحن المصريين "أسرى" ماء النيل منذ آلاف السنين، فالنهر هو الذى صنع مجتمعنا ودولتنا المركزية، كما قال هيرودت المؤرخ اليونانى الأشهر الذى زار مصر قبل أكثر من ألفى عام، حيث قال "مصر هبة النيل".
ومن ثم لا يجوز أن يفرط أى نظام أو حكومة فى حقوق مصر المائية التى يوفرها لنا نهر النيل، علماً بأننا لا نملك النهر وحدنا، بل يشاركنا فى مياهه العذبة ثمانِ دول أخرى: سبع منها تسمى دول المنبع وهى: إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وبوروندى والكونغو وكينيا، أما السودان ومصر فهما دولتا المصب.
يوم الجمعة الماضى وقعت الأربع دول الأولى على اتفاقية جديدة لتقاسم مياه النهر "كينيا أرجأت موافقتها"، متجاوزين بذلك اتفاقية عام 1929 التى تم تمديدها والتأكيد عليها سنة 1959، هذه الاتفاقية القديمة كانت تخصص حصة كبرى من مياه النهر لصالح مصر، لكن لأن النظام المصرى يهمل العمق الأفريقى منذ عقود، مكتفياً بقمع المعارضين من كل الاتجاهات، ومداهنة إسرائيل ومراعاة أمريكا، فإن الأفارقة الذين كانوا يقدرون الدور المصرى فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى الداعم لهم ولنضالهم ضد مستعمريهم، انزعجوا الآن من الصد المصرى المزمن، وفتحوا صدورهم لاستقبال خبراء أمريكا وإسرائيل "هناك أكثر من 5000 خبير إسرائيلى فى إثيوبيا وحدها فى كافة المجالات، كما أن هناك مشروعاً أمريكياً قديماً ببناء 33 سداً على النيل فى إثيوبيا، ويقال إن هناك حديثاً جدياً عن بناء 10 سدود حالياً بخبرات إسرائيلية وصينية".. "جريدة الخليج الاقتصادى – 16 – 5 – 2010".
ترى ماذا نحن فاعلون إزاء هذه الكارثة المائية التى تلوح فى الأفق؟ دعك الآن من التطمينات الخائبة التى يروج لها وزراء ودبلوماسيون فى الحكومة المصرية، مثل: إن الاتفاقية لا تلزمنا بشىء ما دمنا لم نوقع عليها، أو أنها تخالف القوانين والأعراف الدولية، أو أننا نبذل جهوداً دبلوماسية الآن مع هذه الدول لتتراجع عما أقدمت عليه! ذلك أن هذه التطمينات الساذجة تؤكد حجم الفضيحة التى ألمت بالسياسة المصرية ولا تنفيها، ولك أن تقرأ التصريح الذى أدلت به ستانسيلاس كامانازى وزيرة البيئة فى رواندا عقب التوقيع على الاتفاقية مؤخراً حتى تدرك مدى الإخفاق الذى منيت به سياستنا تجاه هذا الملف، قالت الوزيرة بالحرف: "مصر كانت تطلب تأجيل التوقيع على الاتفاق الإطارى، ولكن لا يمكننا الانتظار.. لقد تفاوضنا على مدى عشر سنوات".
إذا سألتنى الرأى سأقول لك: ليس عندى أمل كبير فى أن الدبلوماسية المصرية سنجح فى إلغاء هذه الاتفاقية أو تعديلها بما يحفظ لمصر حصتها القديمة من مياه النهر، فالدبلوماسية ابنة شرعية للتوجهات السياسية، ومادام النظام المصرى قد أعطى ظهره لأفريقيا منذ عهد الرئيس السابق أنور السادات وما زال، فلا أحسب أن الأفارقة سيمدون لنا أيادى الكرم، خاصة أن مكائد إسرائيل وألاعيبها تفعل فعلها فى القارة السمراء! وما انفصال جنوب السودان المتوقع حدوثه بعد نحو 8 أشهر عنا ببعيد!
وبالمناسبة فإن دولة جنوب السودان الوشيكة ستصبح الرقم عشرة فى الدول التى يمر بها نهر النيل، ومن الصعب توقع أن تخاصم هذه الدولة الجديدة إسرائيل أو تعرقل مساعيها فى خنق مصر والتضييق عليها.
طبعاً لا يغيب عن فطنة اللبيب أن الدول الأفريقية التى تحتضن نهر النيل لها طموحاتها الاقتصادية والتنموية المرتبطة بالنهر مثل إقامة السدود لتوليد الكهرباء، أو زيادة الرقعة الزراعية.. إلخ، الأمر الذى يجعلها تواقة لأن تستحوذ على أكبر نسبة من مياه النهر الخالد، إلا أن هذه الطموحات كان من الممكن أن نواجهها ونتعامل معها لو كنا التفتنا منذ زمن إلى احتياجات هذه الدول، وامتلكنا من الحصافة ما يجعلنا نعقد معها الاتفاقيات التى تترجم إلى مشروعات اقتصادية واستثمارية تلبى أشواق هذه الدول وشعوبها، وبالتالى نتمكن من الحفاظ على حصتنا المائية كما هى من خلال تدعيم علاقاتنا معها.. لكننا – بكل أسف _ لم نفعل متوهمين أن النهر لن يمسسه أحد، وأن مياهه حق لنا إلى الأبد.
الآن.. هل يمكن اعتبار الاتفاقية التى وقعت فى عنتيبى بأوغندا يوم الجمعة المضى 14 مايو بداية مشئومة لاندلاع حرب المياه بين دول حوض النيل؟ الأرجح أنها كذلك، والأغلب أننا أكثر هذه الدول خسراناً بعدما فعل السفهاء منا مافعلوا!
أما السؤال الموجع للقلب، فهو: إذا لا قدر الله انخفض نصيبنا من مياه نهر النيل، كما هو متوقع، فهل سنشرب نحن المصريين من البحر؟