لا حركة حماس ولا أنصارها ينكرون أنها حركة دينية تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية ذات مرجعية إسلامية فى الأراضى المحتلة، فى نفس الوقت لا أحد فى داخل الأراضى المحتلة ولا فى خارجها يشكك فى نوايا وإخلاص قادتها تجاه مشروعهم الوطنى.. حماس مثل غيرها من باقى القوى الفلسطينية لها الحق فى التمثيل السياسى والوصول إلى السلطة طالما كانت الوسيلة مشروعة، وتعبيرا عن إرادة الجماهير.. لكن جاء عدوان إسرائيل الوحشى الأخير على غزة ليفرض واقعا جديدا على مسار القضية الفلسطينية.. هذا الواقع كشف عن وجود ممانعة إقليمية ودولية تحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة، ليس فقط فى فلسطين
بل فى أغلب الدول العربية أيضا، وهو ما يستغله الكثير من الحكام العرب فى ترسيخ قواعد اغتصابهم للسلطة فى هذه المنطقة من العالم.
لقد كان لافتا أثناء العدوان على غزة أن تتعاطف أوروبا والغرب المتقدم مع إسرائيل بالرغم من بشاعة المجازر بحق المدنيين.. هذا الغرب الذى يُشرع القوانين لحماية الحيوانات تقاعس، عن التحرك لإنقاذ أطفال ونساء غزة من قصف الطائرات والصواريخ الإسرائيلية على مدار ثلاثة أسابيع متواصلة!!.. إذن يجب هنا أن نعترف بوجود مشكلة كبيرة فى هذه الرؤية ونبحث عن أسباب هذه المفارقة!!
من وجهة نظرى هناك ضبابية فى الرؤية لدى الغرب تجاه وجود الإسلاميين فى السلطة، فلا فرق عندهم بين معتدلين ومتشددين.. سواء كان الغرب على حق فى رؤيته المشوهة لسلطة تقودها تيارات إسلامية، أم شكلوا رؤيتهم بناء على تجارب الإسلاميين السابقة بدءا من أفغانستان وانتهاء بالصومال مرورا بإيران، فإن الحقيقة الواضحة أن الفجوة كبيرة بين القيم التى ينطلق منها الفكر الغربى والفكر الإسلامى، لأن كل طرف يقف على أرضية مختلفة، ومن ثم يبنى على أساسها نظرته للآخر ورؤيته للحياة والسياسة!! أكبر دليل على ذلك هو موقفهم من حماس نفسها، فبالرغم من وصولها للسلطة عبر صناديق الانتخاب، إلا أن التجربة العملية أثبتت مقاطعة أغلب دول العالم لها بما فى ذلك الولايات المتحدة أكبر مروج للديمقراطية فى العالم.. هذا الاحتجاج العالمى لوجود حماس فى السلطة، دفع الكثيرين من داخل الحركة ومن خارجها للاعتراف بأن قرار حماس بالتحول إلى العمل السياسى، كان خطوة فى الاتجاه غير الصحيح لا لحماس ولا للقضية الفلسطينية بشكل عام، لأنها كشفت عن استراتيجيتها تجاه بناء دولة ذات مرجعية إسلامية فى الأراضى المحتلة.. هذه الاستراتيجية كانت تتطلب تحولا فى عنوان القضية الفلسطينية من مشروع عالمى للتحرر الوطنى إلى مشروع لـ"الجهاد" الإسلامى على الأقل من وجهة النظر الغربية.. هذا المفهوم رسخته حماس بعد طردها سلطة فتح من قطاع غزة والانفراد بإدارته، وما ترتب عليه من خلط فى الأوراق.. هذا الخلط دفع دول محورية مثل مصر إلى مراجعة مواقفها مع حماس، والتحفظ على أى مشروع مستقبلى لبناء دولة إسلامية مجاورة!
بناء على ذلك لو صح ما ذكره لى أحد المقربين من حركة المقاومة الفلسطينية حماس، بأن قادة الحركة يدرسون اقتراحا بالابتعاد عن اللعبة السياسية فى المرحلة القادمة، والاكتفاء بنشاط الحركة المقاوم للاحتلال والتركيز على العمل الخيرى والدعوى.. على أن تشرع الحركة فى العودة إلى العمل بجناحين، الأول سياسى مدنى يمثله حزب معارض يشارك فى الانتخابات، والثانى مقاوم يستمر فى أداء واجبه ودوره البطولى حتى تتحرر الأرض وتُقام الدولة الفلسطينية.
أتصور أن سيناريو ابتعاد حماس عن قيادة الحياة السياسية الفلسطينية ربما يشجع الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما وفريق إدارته، على النظر بموضوعية وعدالة للقضية الفلسطينية، ويحفزه على وضع نهاية لهذا الصراع الذى أرهق شعوب هذه المنطقة وقضى على آمال الكثير من أبنائها، فدفعهم اليأس إلى أتون التطرف والعنف، كما أن ابتعاد حماس عن صدارة الساحة السياسية سينهى الهواجس لدى بعض الأطراف العربية حول شبح وجود "إمارة" إسلامية فى غزة.
لكن كى ينجح هذا السيناريو فإن الأمر يتطلب من مصر وقفة صريحة مع حماس، وأن تكون هذه الوقفة هى محور أى حوار يجرى بين مصر والفصائل الفلسطينية، حتى لا تبقى كل الأطراف تدور فى حلقة مفرغة ويستهلكون الوقت دون أن يصلوا إلى نتيجة، بينما المحتل الإسرائيلى ماض بحماس ودعم غربى، فى بناء مشروعه الإمبراطورى فى المنطقة، مستفيدا من حالة الانشقاق والتناقض المستمرة فى البيت الفلسطينى والعربى.