تحية له..
فرحت أمس لجمال عبد الناصر.
لقد تحققت أمامه الرؤى التى كانت تعبر خياله وكأنها الأحلام البعيدة التى لا تلحق ولا تطال.
لقد
التقى وجهاً لوجه، مع الآمال التى طالما بشر بها، ومع الأهداف التى طالما
دعا إليها، ومع الخطط التى رسمها للوصول بوطنه إلى حيث يريد له.
التقى
بها وجهاً لوجه فى أسوان. وكانت الآمال والأهداف والخطط قد أصبحت حقائق
كبيرة يراها بعينيه، ويراها شعبه معه، وتراها الدنيا معه ومع شعبه.
طوال يوم أمس - فى أسوان - كانت عيناى عليه.. وكانت فرحتى له، من قلبى.
ما كان أصعب طريقه إلى هذه الساعات التى عاشها أمس فى أسوان.
ما أصعب الذى واجهه، وما أشد الذى قاساه. وما أثقل الذى حمله على كتفيه وصمد تحته لم ينوء به ولم يتململ، وهو فى ثقل الجبال!
ما أصعب الجهد الذى بذله وهو يحبس أسراره الكبرى فى صدره ويربط عليها بأعصابه ويشدد الرباط.
ما أصعب الانفعالات التى تعرض لها، وكيف استطاع أن يملك دقات قلبه خلال اللحظات الحاسمة التى غير بها مجرى التاريخ.
كيف
كانت دقات قلبه، وهو يتخذ فى الساعة الحادية عشرة من مساء ليلة 23 يوليو
قراره الشهير بالمضى فى تنفيذ الثورة كما وضع خطتها رغم أن أمرها قد انكشف
للذين كانت الثورة عليهم... واستغرق فى فكره لحظة ثم قال:
- لم يعد مجال إلا للمضى فى الثورة، لقد بدأت العجلة تدور ولا يمكن إيقافها.
وبدأت
الكتائب التى صنعت الثورة تخرج من معسكراتها... وانهار النظام الملكى الذى
قضى فى مصر ما يقرب من قرن ونصف قرن يمكن لنفسه على أرضها ويحكم سيطرته
على شعبها بكل طريق.
كيف كانت دقات قلبه وهو واقف على بعد بضعة كيلو
مترات، من قاعدة الاحتلال الكبرى فى قناة السويس، وفيها ثمانون ألفاً
مدججين بالسلاح، ومدرعاتهم من حولهم وطائراتهم على مطاراتهم بالقرب منهم،
وأسطولهم يملك السيطرة فيما يحيط بهم من بحار، ثم يقف هو يقول لشعب ضعيف
أعزل :
- يجب أن يحمل الاستعمار عصاه على كاهله ويرحل أو يقاتل حتى الموت دفاعاً عن وجوده!
كيف
كانت دقات قلبه وهو جالس مع جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة
الأمريكية، ودالاس يومها صاحب السطوة فى معسكر الغرب كله، وقائد هذا
المعسكر ومحركه، وأهم من هذا دالاس يومها صاحب فكرة الأحلاف العسكرية من
حول الاتحاد السوفيتى وصانعها نطاقاً من الفولاذ.
ويطلب منه دالاس
فى ذلك اللقاء الأول والأخير بينهما سنة 1953 فى دار السفارة الأمريكية فى
القاهرة أن يقف مع الغرب وينضم لأحلافه ويقول له جمال عبد الناصر :
- ليس ذلك طريقنا... إننا نؤمن بعدم الانحياز.
كيف
كانت دقات قلبه وهو جالس مع أنتونى إيدن نائب رئيس وزراء - ونستون تشرشل
وقتها - وكان ذلك هو اللقاء الأول والأخير بينهما وكان التاريخ هو مارس
1955 - ويطلب منه إيدن أن يمتنع عن مقاومة حلف بغداد، ويكون الرد الذى
يتلقاه إيدن :
- إننا سوف نمضى فى مقاومة حلف بغداد إلى نهاية
المدى... إننا نراه خطراً على وحدة القومية العربية، ونراه دفعاً بشعوبنا
إلى الحرب الباردة.
كيف كانت دقات قلبه وهو يكظم الغيظ بعد غارة غزة سنة 1955.
ويقف غداة الغارة يخطب فى الكلية الحربية ويقول :
- إن هذه الغارة على غزة سوف تكون نقطة تحول فى تاريخ الشرق الأوسط.
ثم
لا يفصح بعدها، ثم يبدأ مفاوضات عقد صفقة السلاح المشهورة مع الاتحاد
السوفيتى، ثم يصل إلى يوم القرار النهائى، ويكتب برقية من كلمتين يسلمها
إلى عبد الحكيم عامر لتطير على الفور إلى الوفد العسكرى الذى كان يقوم
بالمفاوضات سراً فى براج.
والبرقية تقول : وقعوا الصفقة.
هذا وهو يعلم أنه يعيش فى جزيرة يحيط بها نفوذ الغرب من جميع نواحيها.
كيف
كانت دقات قلبه وهو يعطى تعليماته بالاعتراف بالصين الشعبية، وكانت الصين
تعيش يومها فى شبه عزل صحى دفعتها إليه أمريكا، ولم تجسر على اختراقه دولة
كبرى أو صغرى بعد حرب كوريا.
ثم لم يكن له من رد على التهديد والوعيد إلا قوله :
- سياستنا مستقلة ونحن نرسمها فى بلدنا ولا نتلقى الأوامر من الخارج!
[size=21]كيف
كانت دقات قلبه ساعة اتخذ قراره بتأميم شركة قناة السويس ووقف أمام حشد
الجماهير الكبير فى الإسكندرية - ولم يكن قد مضى على انتخابه رئيساً
للجمهورية غير شهر واحد - يعلن هذا القرار وهو يعلم احتمالات الخطر الكامنة
وراء إعلانه، ويقول:
لقد وقعت الآن هذا القرار.
قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس...
مادة واحد - تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس.
مادة اثنين -.....
وتقوم الدنيا كلها على أطراف أصابعها، تحبس أنفاسها المبهورة وهو لم يفرغ بعد من قراءة باقى مواد القـانون.
كيف كانت دقات قلبه ليلة مؤامرة انسحاب المرشدين الأجانب من قناة السويس.
كيف كانت دقات قلبه ليلة اتخذ قرار رفض الإنذار البريطانى الفرنسى.
كيف كانت دقات قلبه وهو يرى بعينيه من سطح منزله أول غارة لطائرات الكانييرا البريطانية - قاذفات القنابل النفاثة - على عاصمة وطنه.
كيف كانت دقات قلبه لحظة اتخذ قرار سحب الجيش من سيناء ليقف فى جبهة واحدة مع الشعب لمواجهة العدوان الزاحف من جميع النواحى.
كيف
كانت دقات قلبه حين وقف على منبر الأزهر الشريف - وصوته يجرحه الإجهاد
والانفعال - ليعلن بنفسه للناس قرار الانسحاب ويشرح دوافعه.
كيف
كانت دقات قلبه وهو يطلب من الجيوش العربية التى أرادت التدخل فى المعركة
نصرة لشعبه أن تتريث وأن تنتظر وألا تعرض نفسها لاحتمالات لا يعلم إلا الله
مداها.
كيف كانت دقات قلبه وهو يقرأ قوائم ضحايا المعركة، وفيهم من ضباطها رفاق الفصل وأصدقاء الشباب، ورفاق السلاح والكفاح.
كيف
كانت دقات قلبه وهو ساهر وحده ليالى المعركة - وما كان أطولها - يقود حرباً
عسكرية وسياسية وقف العالم بسببها على حافة الهاوية وتحركت من أجلها
القنابل الذرية من مخازنها، ورفعت قاذفات الصواريخ رؤوسها على قواعدها نحو
السماء محملة بهول يهدد البشرية كلها بدمار لا يتصوره ولا يحيط به خيال.
كيف كانت دقات قلبه بعد المعركة، وهم يطلقون على شعبه وحوش الجوع لتحقق ما فشلت وحوش الحرب فى تحقيقه.
كيف
كانت دقات قلبه ومحاولات عزل وطنه عن باقى الشعوب العربية تضع الخناجر وراء
ظهره فى أيدى الذين كان يجب أن يكونوا معه ثم أغراهم العدو أن يكونوا
عليه.
كيف كانت دقات قلبه ساعة الوحدة الكبرى.
كيف
كانت دقات قلبه لحظة أذاع من على ظهر المدمرة الناصر قراره: "بأن كل عدوان
على ثورة العراق وعلى الجمهورية العراقية الوليدة هو عدوان على الجمهورية
العربية المتحدة" وكانت الأساطيل تملأ البحر وشواطئه، والطائرات تغطى وجه
السماء وتلقى جنودها بالمظلات... وهو نفسه بعيد عن الوطن والبحار والأراضى
التى يسيطر عليها العدو تفصل بينه وبين هذا الوطن.
كيف
كانت دقات قلبه وهو يحدد خط الوطنية وخط القومية العربية، ويكشف مواضع
الانحراف، ومواطن الزلل ويبدأ فى مواجهة معركة عنيفة جديدة ضد الأخطار التى
راحت تهدد وحدة العرب وطريقهم المستقيم.
وسألت نفسى وعيونى عليه أمس فى أسوان:
كيف كانت دقات قلبه الآن... هذه اللحظات.
وهو يضغط على زر فتنفجر شحنة ضخمة من الديناميت تمزق من قلب الجبل عشرين ألف طن من الصخور إيذاناً ببدء العمل فى بناء السد العالى.
ثم
وهو يضغط على زر آخر فتنطلق شرارة... تشد بعدها طاقة من الكهرباء، تصل
قوتها إلى عشرة مليارات كيلووات، من مشروع كهربة خزان أسوان.
ثم وهو يقص شريطاً من الحرير يدخل بعده إلى مصنع السماد الجديد، أضخم المشروعات الصناعية وأكـبرها.
ثم وهو يفتتح المطارات النفاثة فى أسوان، والشوارع العريضة التى انطلقت وسط الجبال، والمدن الجديدة التى قامت وسط الصخور والرمال.
وفرحت له...
فرحت له من قلبى.
لقد أتاحت له الأقدار ما لم تتحه لغيره من صانعى التاريخ، وواتته الفرصة لكى يرى فى الواقع، ما كان يراه فى الرؤى كالأحلام.
أى عزاء..
أى عزاء للأعصاب التى تحملت ثقل الجبال.
أى عزاء للشباب الذى انقضت أيامه ولياليه فى السهر والعمل والتفانى.
أى عزاء للشعر الذى استحال معظمه إلى بياض الثلج الناصع على القمة الشاهقة.
يا أبا خالد... يا أبا شعبك... بورك لك... وبورك فيك.