نحن قوم لا نأكل إلا فى الشارع، وإذا أكلنا نملأ التنك على آخره، فلا أحد يعلم متى يمكنه أن يأكل مرة أخرى، فى ظل الأزمات العالمية والمحلية المتتالية.
ثلاثة أرباع المصريين يخرجون من بيوتهم بمجرد الاستيقاظ، ولا يعودون إلا عند النوم، تحولت البيوت إلى لوكاندات، يسلّم المواطن المفتاح ويكتب وصيته وهو خارج، ويتسلم المفتاح ويسلم حصيلة عمله طوال اليوم وهو داخل، وهو غالبا لا يأكل إلا حين يتذكر، وهو غالبا لا يتذكر إلا مرة كل يومين أو ثلاثة وأحيانا كل أسبوع، وأحيانا يتذكر ويتناسى، وأحيانا يتذكر ويتحايل على الجوع بكوب شاى سكر زيادة، أو ببقسماطة، أو بباكو بسكويت، أو بالتفكير فى الجنة ونعيمها.
أحزمة المصريين من خامات مختلفة، جلد طبيعى، وغير طبيعى، وقماش، وبلاستيك، وليف، وأحبال، شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك، وشَدّ الحزام وسيلة قديمة وناجحة وناجعة ومفيدة ومجربة لإسكات الجوع، الجوع كافر، لكن المصريين جلسوا معه وقالوا له: اسلم تسلم، وأقنعوه بالحسنى وبالسيئة، وعقدوا له جلسات وعظ وإرشاد، وأخذوه من يده وذهبوا به إلى مشيخة الأزهر، وأجبروه على النطق بالشهادتين، حتى أسلم وحسُن إسلامه، وصار صديقا صدوقا مقيما.
الجوع فى البطن مثل الأصابع فى اليد، والأنف فى الوجه، والشعر فى الرأس، لو كان الجوع رجلا لأخذه المصريون من يده وجلسوا معه على القهوة، وطلبوا له حجرين معسل وواحد شاى بالحليب، ولتفاوضوا معه على مواعيد الزيارة، ولقسموها ورديات فيما بينهم، كل واحد يجوع يوم، وبالتالى حين يأتى الدور على الواحد منهم مرة أخرى يكون قد مر 75 مليون يوم، فلا يجوع فى حياته إلا يوما واحدا، مما سيوفر على الدولة الكثير من العملة الصعبة والمطاعم وموتوسيكلات توصيل الطلبات إلى المنازل.
الحاجة أم حسين، والحاجة أم أحمد، والحاجة أم الاختراع، لهذا تحايل المصريون على الجوع بمئات الوسائل، ومئات الأرغفة، العيش هو مرادف الشبع، نحن قوم لا نشبع من «الغموس» ولكن نشبع من العيش، لا يهم كثيرا نوع الشىء المعبأ والمخبأ داخل الخبز، المهم الخبز نفسه، حتى صار شعارنا القومى الذى يتبنى البعض اقتراح كتابته على العلم بدلا من النسر: «أى حاجة فى رغيف».
يذكر لنا التاريخ أسماء عدد من شهداء الخبز، كُتبت أسماؤهم بحروف من عجين على شكاير من خيش، فقدوا أرواحهم الطاهرة فى سبيل الحصول على 5 أرغفة ساخنة، وبعد زيادة أعدادهم فكرت الدولة أن تبنى لهم نصبا تذكاريا على هيئة رغيف عملاق أمام مجمع مطاحن شمال القاهرة، وأن تخصص لهم عيدا قوميا، يضع فيه كبير الفرانين إكليلا من الفينو المصنوع من الدقيق الفاخر بردا وسلاما واعتذارا لائقا لمواطنين ضحوا بأرواحهم فى سبيل أفران هذا الوطن.
كل ولا تقل، كل بما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب، أكل يأكل أكلا فهو آكل وأكول وأكّيل، كل أكل الجمال وقم قبل الرجال، ولا عزاء للسيدات، ولكن لهن عربتان فى مترو الأنفاق، من تركب واحدة منهما تظل تأكل فى نفسها حتى تنزل، وإذا أكلتك رأسك فما حكّ جلدك مثل ظفرك، ولكن قص أظافرك قبل الأكل وبعده وفى المنتصف، ولا تنم بعد الأكل مباشرة، ولا ترسل ابنك ليلعب على السلم وفى يده برتقالة، فربما يكون ابن جارك لا يحب البرتقال فيتشاجر معه.
عربات ومطاعم الفول والطعمية والكبدة والسجق والجبنة والمربى والبلوبيف ولحمة الراس والكلاوى والفشة والكرشة والممبار والسمين والمكرونة والشاورما والبيض والكشرى تجرى من المصريين مجرى الدم، والدم عمره ما يبقى مية إلا بعمليات كيميائية معقدة، والقاسم المشترك الأعظم بين كل هذه المأكولات هو الرغيف، يتردد المواطن طويلا، ثم يتوجه إلى العربة أو المطعم، وينظر إلى قائمة أسعار الساندوتشات، ويتوكل على الله ويشترى، أى حاجة فى رغيف، وبجوارها بعض المخلل، الحمد لله امتلأ التنك، ويمكن لصديقنا أن ينطلق فى الحياة بأقصى سرعة، لينجز أكبر قدر من الأشياء غير المهمة فى الغالب قبل أن يفرغ تنكه مرة أخرى.
الفول يحتل المرتبة الأولى، الفول زبدة الفقراء، ولحمة البائسين، ومنه اشتقت ألفاظ كثيرة نستخدمها فى حياتنا اليومية: فول أوبشن، فول تانك، فول أوتوماتيك، وإن خلص الفول أنا مش مسئول، وماخطرتش على بالك يوم تفطر عندى؟ أما «القدرة» فهى الإناء الذى يطهى فيه الفول، يدخل نيئا، فيخرج مدمسا، كل شىء بالخناق إلا التدميس بالاتفاق، الفول قضية أمن قومى، ولهذا لا تستطيع البلدية فى أى مكان فى مصر التعرض لعربة فول، خذ من المصرى شقته التى يسكن فيها ولا تأخذ منه شقة الفول التى يأكلها، عض قلبى ولا تعض سندوتشى، فول على مهلك فول.. بكرة الدنيا تزول.
عربات الكبدة والسجق هى المنافس الأكبر لعربات الفول، أولا لن تعرف فى يوم من الأيام حتى لو استعنت بالمعمل الجنائى نوع الكبدة التى تأكلها من هذه العربات، والروايات متعددة، هناك من يجزم أنها كبدة حيوانات من التى تُركب، لكن أصحاب هذا الرأى اختلفوا فى كونها حيوانات نافقة أى ميتة، أم أنها حية مذبوحة طبقا للشريعة الإسلامية وعلى سنة الله ورسوله؟ أصحاب النوايا الحسنة يرون أنها كبدة جاموسى وبقرى، لكنها مستوردة ومجمدة، انتهت صلاحيتها، أو ساح ثلجها وانصهر تجميدها فى البحر، وبدلا من أن يلقوها للأسماك أدخلوها البلاد عن طريق الفساد ليأكلها العباد، وهناك رأى يرى أنها ليست كبدة أصلا، وإنما هى خفافيش مجففة ومطحونة ومنقوعة فى الدم، وهؤلاء يؤكدون أنها تعطى نفس الطعم تماما، إن لم تكن ألذ.
السجق قصة أخرى، فهو «أى حاجة فى حتة جلدة»، شغت على دهن على جلد على عيش على توم على توابل على ميكروبات، على ألوان غير صحية وغير مصرح بها، يتم فرم المجموع فى مفرمة كبيرة، قال شاهد عيان إنه رأى الفئران تحوم حولها ثم تسقط فيها أثناء الفرم، فتصدر صوت صراخ أشبه بـ«التزييق» قبل أن تدخل فى المواد المكونة، فإذا كنت تأكل سجقا، وصادفك شىء صلب بين أسنانك، فغالبا ستكون واحدة من أسنان فأر، فألقها فى المطرية أو الحلمية أو عين شمس وغن: يا شمس يا شموسة خدى سنة الفار وهاتى سنة الجاموسة، ولا تقلق كثيرا بشأن هذا الأمر، فغالبا ما سيكون لحم الفئران هو الشىء الطازج الوحيد فى الموضوع.
الكشرى، يأتى فى المرتبة الثالثة، وهو أفضل ما يمكن أن يطلق عليه: «كل حاجة فى رغيف»، أرز على مكرونة على شعرية على عدس على حمص على تقلية على شطة على دقة. هناك شرائح كثيرة لا تقتنع بفكرة أكل الكشرى مستقلا، فتقلّبه فى الطبق ثم تقلبه فى العيش، لتصنع منه »سندوتش كشرى«، وهذا هو السبب فى أنك لا تجد محل كشرى إلا وأمامه بائع يقف على قفص عيش، ويقال إن الفراعنة هم أول من اخترع الكشرى وإنه كان السبب فى تقدمهم المذهل، لكن تراجع حجم الطبق ودرجة حرقان الشطة على أيامنا والغش فى الدقة هو المسئول عما نحن فى من «تدحدر وانهدار».
كل المأكولات تتساوى بعد هذا، ولا يزورها زميلنا ورفيقنا المواطن الكادح إلا لمامًا، وهو حين يريد أن يغير الفول يأكل الطعمية، وحين يريد أن يغير الكشرى يطلب طاجن مكرونة من محل الكشرى أيضا، أما عربات الكبدة والسجق فهو مضطر إليها ولا يحبها، وهى ترفع أسعارها أسبوعيا تقريبا، الفينو يرتفع سعره ويصغر حجمه، والبائع يرفع شعار: «لحّس الرغيف وكمله بالطحينة»، ومن فرط مراعاة أصحاب عربات الكبدة للمواطنين ومشاعرهم، كتب أحدهم على عربته بخط كبير: نظرا لارتفاع أسعار المواد الخام عالميا.. نأسف لرفع أسعار السندوتشات.
فاصل وهوامش وتعريفات
الرغيف: كائن أسود غالبا، مستدير أحيانا، مكسو بحبيبات من الردة والتراب والرمل، له وجهان، وبالتالى ليس مخلصا، مصنوع من دقيق فاسد، أو مسرطن، أو حيوانى، مرصع بكل ما خف حمله وقذر شكله من أعواد ثقاب، وأعقاب سجائر، ومسامير، وشعر، وذقن، وكتل ملح، ومعادن غير معروفة، وهو على هذا كله بعيد المنال، لا يمكن الحصول عليه إلا بالوقوف فى صف طويل سيئ السمعة اسمه الطابور.
الطابور: صف طويل من البنى آدمين، يمكنك تمييز آخره بسهولة، لكن غالبا لن تتمكن من رؤية أوله، وهو بيئة مناسبة لجميع أنواع الموبقات، بدءا من السرقة والنشل والتحرش والتشاجر حتى القتل، وهو طابوران: طابور للرجال وطابور للنساء، وتحايلا على الوقت، يذهب المواطن مع زوجته إلى الطابور، فإذا كان طابور الرجال أطول تقف هى فى طابور النساء، وإذا كان طابور النساء أطول يقف هو فى طابور الرجال، وهناك كثير من المواطنين من هواة الطوابير، بمجرد أن يلمح طابورا يقف فيه، دون أن يهتم بمعرفة ما الذى يحدث فى آخره.
مشيخة الأزهر بالدراسة: أبرز الأدوار التى تقوم بها فى حياتنا هو الدور الأول، حيث تقام به حفلات عقد القران، ولا يوجد أى مواطن صالح فى القاهرة الكبرى وضواحيها لم يكتب ابن خالته كتابه هناك، ولها دور آخر فى منتهى الأهمية، ففى حالات الطلاق حين يريد الزوجان عدم احتساب الطلقة، أو حين تقع الطلقة الثالثة يسأل الزوجان: ما الذى ينبغى علينا عمله؟ فيجيب حكيم العائلة: روحوا اسألوا فى دار الإفتا، فيسأل الزوج مهموما: ودى فين دى؟ فيقول الحكيم: عارف مشيخة الأزهر اللى كتبت فيها كتابك.. لازقة فيها.
الحاجة أم الاختراع: . كانت تسكن فى الدويقة، وفى زلزال 92 انهارت بلكونة منزلها، وسمعت أنهم يوزعون شققا فى النهضة على المنكوبين، فارتدت جلبابها الأسود، وعلقت لافتة على صدرها كتبت عليها: «منكوبة»، أخذت شقة النهضة بدلا من البلكونة واحتفظت بشقة الدويقة، وحين خرج ابنها «سيد اختراع» من السجن بعد الحكم عليه فى قضية سرقة بالإكراه، أخذ شقة النهضة وأدارها لتجارة المخدرات، وحين أغرق الحشيش البلد رفض الاستمرار، وقال: «كده العملية لمت»، وغيّر نشاطه إلى سمسار عقارات وأعضاء، وهو أول من اخترع نظام تأجير الأعضاء قانون جديد لمدة محددة بدلا من التمليك نهائيا، وهو القانون الذى سيبحثه مجلس الشعب فى دورته الشهرية باقتراح من أحد نواب الحزب الوطنى.
العملة الصعبة: أصعب من امتحانات الثانوية العامة، ومن تداول السلطة، ومن القبض على محتكرى الحديد، ومن العثور على كرسى فى مترو الأنفاق، ومن إيمان فرعون، وإيمان البحر درويش. قديما كانوا يعلموننا أن العملة الصعبة هى الدولار والإسترلينى، ثم اليورو، وهذه كانت خدعة ضخمة، فحين كبرنا قليلا أدركنا أن أى عملة هى عملة صعبة، حتى لو كانت ربع جنيه مخروما