استقر أهل المال والأعمال المصريون وأنصارهم في الحزب والحكم على حصر مشكلتهم في المواطن.. واسباغ صفات العجز وعدم النضج عليه، وممارسة كل ألوان الكراهية ضده، والمواطن في المقابل يبادلهم نفس المشاعر.. يرفضهم ويكرههم ولا يطيقهم ويعمل على التخلص منهم اليوم قبل الغد، ودائما ما يدعون عليه ما ليس فيه، وينسبون إليه ما هو غير موجود على أرض الواقع. فهم يؤكدون استبدادهم بلوم المواطن، وادعاء عدم تقبله للديمقراطية، فلا يمر يوم دون تصريح أو قول بهذا المعنى. هذا قال به رئيس الوزراء أحمد نظيف، ولا يكل جمال مبارك من ترديده، بعد ان تحول إلى نقطة ارتكاز للمصادرة على التحول الديمقراطي، فهو لا يراه طريقا ناجعا لحكم مصر، وكثيرا ما يحرض على استخدام القوة ضد المواطنين، واعتمادها نمطا سائدا لحكم البلاد.. في عصره انتشرت البلطجة واعتمدت كنهج حزبي ونشاط سياسي له الأولوية في التعامل مع المعارضين، وقد التزم منذ زمن بنظرية 'الضرب بالأحذية' في حكم المصريين، وكل من نظيف ومبارك الابن يعبر عن نمط تفكير ونهج حياة في إدارة مصر وفي نظرتهم للمواطنين، من غير رجال المال والأعمال والسماسرة، ومن الطبيعي أن يكون هذا رأي الأول، الذي لم يُعرف عنه أنه عرف الحياة بمعناها الواسع، أو شارك يوما في عمل عام، وتحقق حلمه في العمل موظفا ساميا لدى جمال مبارك، أما الثاني وهو جمال مبارك يعي أن الديمقراطية تغلق باب الوراثة السياسية، ولا تمكنه من وراثة عرش مصر، الذي دان له في السنوات الأخيرة، ومن أهم أسباب هذه المواقف الشاذة من المواطنين هو طبيعة نشاط وعمل أي منهما.. فنظيف قبل توزيره، وإن كان قد عمل أستاذا للهندسة في الجامعة، كان يمارس عمله الأكاديمي لبعض الوقت، ووقته الأساسي للأعمال الخاصة. أما جمال مبارك فقد بدأت علاقته بالسياسة حاكما من الباطن، وتطور وضعه ليصبح الحاكم الفعلي للبلاد، ومع ذلك فإن وظيفته الجديدة هي لبعض الوقت، بعد أن كرس جل وقته لأعمال السمسرة.
ووفق نظرية أن الطبع يغلب التطبع، فقد يجد البعض لهما عذرا في النظرة المتدنية للمواطن، فهما تربيا على ذلك واستقر في وجدانهما أنهما من طينة مغايرة له ومن فصيل مختلف. أما أن يطلع علينا أمين الإعلام في الحزب الحاكم.. علي الدين هلال.. قائلا بأن المصريين لا يتقبلون التحول الديمقراطي، ويريدون حكومة بمثابة 'ماما وبابا وأنور وجدي'!!. فهذه هي الصدمة. ولمن لا يعرف فهلال استاذ مخضرم في العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتقلب على عدة مناصب، منذ اختياره عضوا بمنظمة الشباب الاشتراكي، بعد تخرجه من الجامعة في الستينات، وتنتابنا الدهشة عندما تعود بنا الذاكرة إلى مراحل الصبا والشباب، حين زاملنا وتعرفنا على شباب بدا واعدا، ثم انتهى بهم الحال إلى ما هم عليه الآن، وانتقالهم إلى ضفة أخرى لا علاقة لها بموقعهم ولا موقفهم السابق، لا نملك لهم إلا الرثاء، وأذكر رأيا لعلي الدين هلال طرحه أمامي في ذلك الزمن، قد يذكره وقد لا يتذكره، وكنا نلتف حوله وهو يستعد للسفر للدراسة في الخارج، وكان ذلك في معهد حلوان للشباب الاشتراكي.. تحدث عن مستقبل مصر حين تنتهي من مرحلة التحول التي كانت تعيشها آنذاك.. قال وقتها ان مصر ستنتهي إلى صيغة تجمع بين الدين والاشتراكية، وقلت لنفسي وقتها أن ذلك الشاب متأثر بتجربة أحمد سوكارنو، محرر اندونيسيا وقائدها الوطني العظيم.. وصاحب أيديولوجية تقوم على هذا المزج. وبعد حصول هلال على الدكتوراه عاد من بعثته ومصر تعيش تحت وطأة النكسة ومناخات انقلاب ايار/مايو 1791. ومع أن كثيرا من زملائه تواروا وراء القضبان أو خرجوا من البلاد إلا أن نجمه عاد إلى الصعود ثم تألق في عصر مبارك الأب، فكان من مستشاريه.. هو وأسامة الباز وسعد الدين ابراهيم، بحكم ما كان لهم من دور في تأهيل الأب سياسيا، ثم تأهيل الأم والابن فيما بعد، والغريب أنه تأهيل لم يغير من طبيعة 'العائلة'، وانتهى بها إلى حالتها الراهنة. وفي الوقت الذي بدأ فيه مبارك ملاحقة سعد الدين ابراهيم، وانزواء الباز تدريجيا، كوفئ هلال باختياره وزيرا للشباب، وشهد عصره حصول مصر على صفر حين تقدمت لاستضافة المونديال، وكانت فضيحة كبرى، ما زال صداها مستمرا حتى اللحظة. ولما انتقلت السلطة إلى مبارك الابن احتفظ بوضعه المتميز في قمة الحزب الحاكم وداخل لجنته، المعروفة باسم لجنة السياسات، ومع ذلك بدا أنه لا يحوز قبولا من زملاء وشركاء وخدم جمال مبارك، فسحبوا منه المسؤولية عن التثقيف الحزبي وبدأ يعاملونه كشخص غير كامل.. ومتطفل عليهم.. وانطبق عليه الوصف الشعبي بـ'ابن الجارية' سخرية من منطق حكام مصر القائم على التمييز، ولم يكن سبب الابعاد عقابا ولا مؤاخذة على فشله في استضافة المونديال إنما لكونه كان يوما منخرطا في منظمة اشتراكية ويدعو لأفكارها!.. هذا الاشتراكي السابق وداعية التوريث الحالي، اعتبر أن ما أسماه الدعم المطلق للمواطن.. أي دعم الفقراء ومحدودي الدخل 'تسولا'!!.. وذلك في محاضرة ألقاها هذا الشهر ضمن برنامج التثقيف السياسي لشباب الصحافيين، ورأى أن دعم الحكومة للمواطنين هو لفترة مؤقتة عليهم أن يتأهلوا بعدها للاستقلال عن الدولة، وإلا فهم متسولون.. من وجهة نظره .
يحتاج هذا الادعاء إلى التعرف على هذا النوع من التحول الديمقراطي، الذي لا يتقبله المصريون أولا، وإلى معنى استقلال المواطن عن الدولة ثانيا، وثالثا عن صحة إتهام المواطن المستحق للدعم بالتسول. وعن النقطة الأولى نسأل هل هناك تحول ديمقراطي بالفعل.. وهل هو موجود؟، وليرشدنا أستاذ العلوم السياسية عنه، وهل يرى ما لا يراه الآخرون، أم أن هذا التحول تاه منه في احدى العشوائيات المنتشرة في طول البلاد وعرضها، أم سقط منه سهوا. فمشاغل الرجل كثيرة لا تمكنه من البحث الجاد عنه فاختفى ولم يعد، وهذا التحول الديمقراطي الضائع ليس موجودا في الأصل.. ولن ندخل كثيرا في تفاصيل كلنا يعيشها وليست في حاجة إلى كشف أو تعرية، والبديل هو التركيز على بعض الشروط، فشرط التحول الديمقراطي المفترض هو أن يترعرع في مجتمع حر معتمدا على مواطن كريم.. وحدود المجتمع الحر في مصر هي بمساحة قسم أو مركز شرطة، أو جدران زنزانة في هذا المعتقل أو ذاك. ومجتمع مرهون لدى أمين شرطة وضابط أمن دولة كفيل بتعرية كل ادعاء بتحول ديمقراطي أو ما هو على شاكلته، وحدود توفير الكرامة للمواطن بحجم ما يسمح به قانون الطوارئ والتزوير الممنهج للانتخابات.. المحلية والتشريعية، وإلغاء ما استعصى منها على التزوير، مثل انتخابات عمد القرى وعمداء الكليات والجامعات، وإذا كان مبرر إلغاء انتخابات العمد هو الأمية. وهي متدنية الآن حيث تبلغ نسبتها العامة 25.9 ' بين الذكور والإناث، وأقل من عشرين في المئة بين الذكور، ولو تم اتخاذ ذلك مبررا، فهو مرفوض، لأن الحق السياسي للمواطن لا يحجبه جهل ولا يزكيه مستوى تحصيل أو شهادة دراسية أو جامعية، والحق السياسي شرط من شروط المواطنة، الذي تكفله قوانين الدولة الحديثة، وقد تكون النية مبيتة بقصر المواطنة.. التي ما زالت مفتقدة.. على الثروة والتحصيل الدراسي والمؤهل العلمي المزيف لرجال المال والأْعمال. ولم يكتف بذلك وأضاف إدعاء آخر بأن المصريين لا يستجيبون للامركزية، وكأن هناك لامركزية تجد الرفض من طرف المصريين، وهم أصحاب مصلحة في اللامركزية من أجل أن تخفف عنهم قبضة 'العائلة' وتوحشها.. والمجتمع المحاصر في قسم أو مركز شرطة أو تحت رحمة مخبر أو مرشد أمني، هو في الحقيقة يقبع في سجن كبير.. والسجون لا تعرف التحولات الديمقراطية ولا تعترف بها، ولا تمثل الديمقراطية فيها أي معنى، والمواطن المحاصر بقانون الطوارئ والتزوير والفساد والتبعية هو ذلك السجين الذي يبحث عن مخرج يوفر له الحرية، وبين السجين والسجان يمارس التحول الديمقراطي المزعوم .
والحديث عن استقلال المواطن عن الدولة هو ترجمة لـ'الفكر الجديد' الذي يتخذه مبارك الابن نهجا له، وهو ما وصفناه في مقالات سابقة بالقدم والعقم حيث يقوم على التمييز السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمذهبي. ومبارك الابن رأى في الدولة معوقا للتوريث والحكم والثراء والتبعية، إلى أن نجح في تصفيتها وأبقى على هياكلها رهن إرادة 'عائلة واحدة' جعلها عبئا على المواطن ومصدر إذلال له، واختار العشوائية نهجا لحكمه، واعتمد الإفساد المنظم للفرد والجماعة سبيلا لإضعاف المجتمع.. وترْك المصير تحت رحمة 'الليبراليين الجدد'، الذين يقودهم، وهم لا ينكرون ولاءهم واندماجهم في المشروع الغربي وهو أساس الكوارث. وإذا ما أعلن علي الدين هلال موقفه على هذا النحو فنحن نفهمه على أنه إعادة تقديم أوراق اعتماده لتأكيد الاندماج فيهم، في وقت اهتزت أعمدتهم وقواعدهم الخارجية، بفعل الأزمة المالية والمصرفية، وفشل المشروع الأمريكي في لبنان والعراق وفلسطين وأفغانستان .
وعن صحة وصف المواطن المستحق للدعم بالتسول، من الصعب وصف هذا القول بأنه سقطة أو هفوة، فهو يصدر عن أكاديمي يعي ما يقول، ويعلم من يخدم، وهو قول لا يخرج عن كونه تعزيزا لموقف وموقع مبارك الابن من الدولة.. أين هذه الدولة التي تعلن استقلالها عن مواطنيها؟ وكيف لها أن تقبل بالتخلي عن دورها وتقف في مواجهتهم، وتتحين الفرص لوقف الدعم عن من يستحقه منهم، وإلا أعتبر تسولا؟.. والدولة الغائبة تتولى، عن طريق هياكلها ومؤسساتها المختطفة، دعم الدولة الصهيونية، بالتسهيلات والغاز الرخيص وتشارك في حصار غزة، وتبخل في دعم مواطنيها، تمهيدا لإلغائه، فهي هياكل متواطئة، وتعاير الشعب بتحول ديمقراطي مفتقد وكأنها جربته ووجدته مرفوضا من المواطن، إنها حقا مهزلة يشارك فيها أكاديميون، وقد كنا نتصورها قاصرة على المضاربين والسماسرة الذين يحكمون مصر.