كثرت في الآونة الأخيرة مقارنة القضية الفلسطينية بـ( القضية العراقية)، وظهر منظرون كثيرون تصدوا لبيان اوجه الشبه بينهما، وعناصر الترابط التي تقود الى مخطط عام يشمل ما هو اوسع من العراق وفلسطين، ولتصبح القضية قضية العرب، والإسلام.. ولشرح نظريات محكمة عن معسكرين متنافسين في حالة مواجهة مصيرية، خصوصا اذا تم ادراج القضية (الأفغانية) ضمن الصورة.
ولا شك ان هناك بعضا من التشابه بين واقعي العراق وفلسطين، وبشكل رئيسي في لغة العنف والسلاح غير المنضبط او المسيطر عليه، وان كان الكثيرون يعتقدون ان كلا من هاتين القضيتين تغذى وتدفع بتدخلات خارجية، قد تكون هي نفسها في الحالتين. وحتى نضع الأمور في سياقها الصحيح فان موضوعة الاحتلال التي تمثل عمق المأساة في الحالة الفلسطينية يجب ان لا تقارن بأي شكل بحالة (الاحتلال) الطارئة في الواقع العراقي. فـ(اسرائيل) تخالف بشكل مستمر قرارات الشرعية الدولية وترفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية بشتى الذرائع والحجج، بينما اصدرت نفس تلك الشرعية الدولية قرارات ملزمة لتأطير حالة الاحتلال في العراق وجدولتها زمنيا، وبالتالي فان مفهوم المقاومة المسلحة يكتسب شرعية قانونية وأخلاقية في حالة فلسطين، بينما يدعو الى التساؤل عن الغاية الحقيقة منها في الحالة العراقية. ذلك ان كل ما تؤدي اليه الأعمال المسلحة في العراق هو اطالة امد الاحتلال بدلا من انهائه. اذ لا يستطيع عاقل ان يطلب من القوات الأمريكية والمتحالفة معها الخروج من العراق اليوم او غدا، بسبب النتائج الوخيمة لهذا الانسحاب واحتمال حدوث حرب اهلية ونزاع مرير على السلطة، خصوصا مع تواجد هذا الكم الهائل من المليشيات المسلحة والأسلحة والذخائر الحربية المنتشرة في ارجاء العراق، والتي لا تخضع بأي شكل الى الحكومة المركزية، ان لم تكن موجهة ضدها اصلا.
والغريب ان (اسرائيل) تتعرض للنقد اللاذع والمستمر لقرارها الانسحاب من جزء من الأراضي المحتلة، وهو قطاع غزة، بسبب عزمها على هذا الانسحاب من طرف واحد، أي بدون اجراء أي ترتيبات او مفاوضات مع الجانب الفلسطيني.. بينما يراد للقوات الأمريكية ان تنسحب فورا من العراق حسب اجندة (المقاومة العراقية)!
ان التدخل الخارجي كان واحدا من اهم اسباب تعقيد القضية الفلسطينية، خصوصا بعد قيام السلطة الفلسطينية. فقد ادى دعم الفصائل المسلحة الى اضعاف تلك السلطة، وفقدانها التوازن احيانا في التعامل مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. فاللغة التي يتكلم بها السلاح هي لغة الغوغاء، وهي لا تحتكم الى منطق ولا يردعها رادع. فإذا كانت تلك الأطراف الخارجية قد نجحت في توجيه الأنظار الى خارج بلدانها وصرف مواطنيها عن مسائلتها.. فان نفس تلك الأطراف تسعى اليوم الى تعزيز تلك التوجهات من خلال خلق (القضية العراقية)، والتي اصبحت تمثل بالنسبة لها منفذا للتنفيس السياسي لمواطنيها المحرومين، والمُضللين على حد سواء. وصار العراق ساحة لتصفية الحسابات واستعراض القوى، وميدانا لحرق المعارضة الداخلية، تحت شعارات القضية الكبرى، وحروب المصير وما شابه.
ومن ناحية اخرى فان المشروع الديمقراطي في العراق لابد ان يكون مصدر ازعاج لدول الحزب الواحد والقائد الضرورة المحيطة بالعراق. تلك التي قهرت شعوبها لعقود من الزمن وعملت على استنزاف مقدراته في خدمة مصالحها الذاتية.. بل ربما انفقت تلك المقدرات، على شحتها احيانا، في دعم (قضية) هذا البلد او ذاك، تحت شعارات المصير المشترك.
في بداية الثمانينيات، خضت مناقشة مع طالب فلسطيني زميل لي في الجامعة، وكان يطالب العرب بدعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية، وان حلّ هذه القضية يقع على عاتق العرب عموما، نظرا لظلم الاحتلال الإسرائيلي وكوارثه والجرائم التي تحلّ بالشعب الفلسطيني نتيجة هذا الاحتلال. وقد تعاطفت معه وأيدته في طرحه بشأن العمل العربي المشترك. وقلت له: ان البلدان العربية، وان لم تكن مُحتلة من قوى خارجية، الا انها تواجه احيانا ظلما على يد حكامها قد يفوق ما يتعرض له الشعب الفلسطيني.. فأجاب على الفور: هذا شأن داخلي، ولا شأن لنا به!
ان هذا الرأي المُصرّح به من طالب جامعي انما هو رأي كل مسؤول عربي في ذلك الوقت، واعتقد انه لا يزال، بشيء من التحفظ. فأن يتعرض الشعب العربي في هذا البلد او ذاك الى القهر على يد حكامه فهو امر داخلي، ولا شأن للبلدان العربية به، بخلاف ما قد يواجه بلد عربي ما من قوى اجنبية. ولكن هل هذا هو رأي الشعوب العربية؟ هل سأل احد معتقلا أيُّ السياط اشدُّ عليك، سياط بلدك، ام سياط المحتلين؟
ولكن الحكام العرب تواطؤا على تعريفات محددة، لأنهم جميعا كانوا يستفيدون منها، ولم يكلفوا انفسهم عناء سؤال شعوبهم.. ومع مرور الزمن اصبحت التعريفات بديهيات تدرس للشعب نصف الجاهل، ثم غزت افكار التطرف تلك الشعوب المُتعبة، لتنقل الواقع المزري الى احلام طوباوية، والوعد ببديل سماوي عن العذاب الأرضي، ولن يكون هناك فرق عند التضحية بالنفس، طالما كانت هذه التضحية طريقا الى الخلود. ونظرت بعض القيادات العربية الى مثل هذه الأفكار بعين الرضا، بل وقدمت لها التسهيلات والدعم.. طالما كان نتائج اعمالها على المدى المنظور ستكون خارج الحدود، وتأخذ العناصر المرشحة للثورة عليها الى محرقة بعيدة، فتضرب عصفورين بحجر.
لقد قال صدام يوما: "العراق وفلسطين حالة واحدة"، وأصبح هذا القول شعارا فيما بعد، وترتبت عليه نتائج يعرفها العراقيون. ولكي يكون العراق وفلسطين حالة واحدة، يجب ان يكون العراق ومصر حالة واحدة، والكويت وسوريا حالة واحدة.. الخ. لا يمكن تجزئة الحالات بداعي الهجمة الأجنبية، فالموت والتعذيب والقهر والحرمان والامتهان واحد في فهم الشعوب، لا فرق عن أي جهة صدر.