توقف صحيفة البديل اليومية عن الصدور كان خبراً صادماً، دون مبالغة، للعاملين فى بلاط الصحافة وللقراء، ويطرح هذا التوقف المفاجئ للبديل العديد من الأسئلة، على رأسها: هل بدأ فعلا عصر أفول وانتهاء الصحافة المطبوعة؟
(1)
فى يوم الثلاثاء الموافق 15 مارس الماضى توقفت صحيفة سياتل بوست اليومية عن الصدور، والتى كانت تصدر يوميا من مدينة سياتل الأمريكية طوال قرن ونصف القرن، لكن إدارة الصحيفة أعلنت أن توقفها سيكون عن الإصدار المطبوع فقط، وأنها قررت أن تتحول من نسخة ورقية إلى أخرى إلكترونية، وأرجعت الإدارة السبب فى هذا التحول إلى تراجع العائد من الإعلانات الورقية، وكذلك اتجاه غالبية المعلنين إلى الصحافة الإلكترونية.
لم تكن سياتل بوست هى الصحيفة الورقية الأولى التى توقفت عن الصدور، حيث أعلنت كريستيان ساينس مونيتور الصحيفة اليومية توقفها أيضاً عن الصدور، وهى الصحيفة العريقة التى تصدر منذ ما يقرب من قرن، وأعلنت الإدارة أن الصحيفة سوف تصدر أسبوعياً كنسخة مطبوعة حتى أكتوبر القادم، وأرجعت السبب فى إلغاء النسخة المطبوعة إلى تراجع توزيعها وكذلك تراجع عائدها من الإعلانات.
فى منطقتنا العربية لم نشهد سوى حالات محدودة لتوقف الصحف عن الصدور، لعل أشهرها كان توقف مجلة المجلة السعودية عن الصدور ورقياً فى أول مارس الماضى، وتحولها إلى نسخة إلكترونية، ويأتى ذلك بعد صدورها كمجلة مطبوعة طوال عقدين من الزمان.
وعندما سألت الزميل خالد البلشى رئيس تحرير البديل عن أسباب توقف صحيفته عن الصدور، قال لى: السبب هو الأزمة المالية العالمية حيث كان من المفترض أن يتم زيادة رأسمال الصحيفة المدفوع من خمسة ملايين إلى عشرين مليون جنيه، وأبلغتنى الجمعية العمومية بهذا الخبر الذى نشرته فى الصحيفة، وعندما جاء الوقت ليدفع المساهمون حصصهم المالية اعتذروا بحجة عدم توافر سيولة بسبب الأزمة العالمية، خاصة أن معظم المساهمين من العاملين فى قطاع المقاولات والبناء، وهو أكثر القطاعات تضرراً جراء الأزمة الاقتصادية العالمية.
وحسب مصادر قريبة من إدارة الجريدة، فإن البديل تكبدت خسائر منذ صدورها تجاوزت سبعة ملايين جنيه، بعد أن بلغت مصاريفها الشهرية حوالى ستمائة ألف جنيه، وقد علمت أن المساهمين بالجريدة يعرضون الصحيفة للبيع.
(2)
هل توقف صحيفة البديل عن الصدور يؤشر لبداية انتهاء الصحافة المطبوعة؟
تقتضى الإجابة عن هذا السؤال أن نوضح ما هى مصادر دخل أى صحيفة، والتى تنحصر فى مصدرين لا ثالث لهما هما الإعلانات وعائد بيع الصحيفة فى السوق، وإذا تحدثنا عن المصدر الأول، سنجد حدوث تراجع كبير فى حصة الصحف المطبوعة من كعكعة الإعلانات، رغم اتساع النشاط الاقتصادى وتنوعه خلال الفترة الماضية، لكن صاحب ذلك على الناحية المقابلة تنوع فى وسائل الإعلام، حيث ظهرت القنوات الفضائية التى أصبح عددها يقاس بالمئات، إضافة إلى ظهور الإنترنت كوسيلة إعلامية ساهمت فى سرعة انتشار المعلومات والأخبار مثل القنوات الفضائية، وقت حدوثها، أضف إلى ذلك تعدداً كبيراً فى عدد الصحف المطبوعة، وكان نتيجة ما سبق هو تفتيت كعكة الإعلانات، بسبب رغبة المعلن فى إرضاء أكبر عدد ممكن من الصحف المطبوعة، كما صاحب ذلك ابتكار وسائل إعلانية جديدة فى أماكن ذات تجمعات جماهيرية مثل المولات التجارية، أدى ما سبق إلى تقليل حصة الصحف الورقية من الإعلانات، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على السوق المصرى، خاصة الذى يعتمد على التصدير، وكان أسرع قرار اتخذته إدارة غالبية الشركات فى مصر هو إجراء تخفيض كبير فى ميزانية الإعلان بها بمعدل يتراوح بين 30 إلى 40% كأحد وسائل ضغط النفقات، وبالتالى انعكس ذلك على جميع الصحف، وتأثرت إيراداتها من عائد الإعلانات، والذى يشكل النسبة الأعظم من إيرادات أى صحيفة، وتزداد الصعوبة هنا، خاصة إذا علمنا أن الأزمة العالمية لن تنتهى بنهاية هذا العام بل مرشحة للاستمرار مدة لا تقل عن عامين حسب قناعة بعض الاقتصاديين العالميين، ومن ثم فإن الصحف الورقية تواجه مأزقاً حاداً يهدد وجودها ذاته.
وإذا تحدثنا عن المورد الثانى الرئيسى للصحف، وهو التوزيع، فحسب ما ذكرته كتب الإدارة الصحفية لبعض المتخصصين مثل الدكتور صليب بطرس أو الدكتور السيد أبو النجا، فإن قمة النجاح لأى صحيفة هو عندما تغطى تلك الصحيفة تكاليف الطباعة من عائد توزيعها فى الشارع.
وحسب الأرقام والمعلومات المتداولة، فإن الصحف التى ينطبق عليها تلك القاعدة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهى صحف مثل الدستور والفجر وصوت الأمة ومجلات مثل ميكى، بينما تخسر صحف كبرى مثل الأهرام والأخبار والجمهورية والشروق والمصرى اليوم، إما لأن سعر الصحيفة أقل من تكلفة الطبع بسبب زيادة عدد الصفحات الملونة مثل الجمهورية والمصرى اليوم، أو لزيادة عدد الصفحات واختلاف نوعية الورق كالشروق والأهرام، وإما لتراجع فى التوزيع، والحالة الأخيرة تشترك فيها جميع الصحف باستثناء القليل منها.
(3)
من العرض السابق نخلص إلى نتيجة مفادها تراجع ملحوظ فى الموارد المادية للصحف، وذلك خلال السنوات القليلة الماضية مما انعكس سلباً على نوعية الخدمة التى تقدمها الصحيفة المتعثرة مادياً، نتيجة قلة الإمكانيات، ويمكننا هنا تقسيم الصحف المصرية وقدرتها على الاستمرار فى الصدور بناء على معيار الملاءة المالية أو كفاءتها فى توظيف المتاح لديها من موارد ومدى قدرة المساهمين على تحمل ضخ أموال جديدة للصحيفة، عن التمويل نتحدث:
أولاً الصحف القومية: وهى الصحف المملوكة للدولة فعلاً وللشعب اسماً وللحزب الوطنى الحاكم فى الحقيقة، وتضم عشر مؤسسات صحفية منها مثلا أخبار اليوم ودار التحرير والأهرام ودار الهلال، وهذه المؤسسات مدينة للبنوك والتأمينات والضرائب بحوالى ستة مليارات جنيه ومطالبة بسدادها، لكن وسط ظروف معاكسة لن تساعدها على أداء التزاماتها الأساسية، فما بالك بتلك المديونيات الضخمة، وتعرض بعض الآراء الحكومية إلى وجهة نظر تطالب بإحداث عملية دمج بين تلك المؤسسات، لكن أياً كانت الحلول المقترحة، فإن تلك المؤسسات والمطبوعات الصادرة عنها تحقق خسائر مادية فادحة، باستثناء الإصدار اليومى لمؤسستى الأهرام والأخبار فقط، وما دون ذلك فهو خاسر.
عاشت المؤسسات الصحفية القومية خلال عقود سابقة على عائد الإعلانات من شركات القطاع العام، لكن تغير الحال بعد خصخصة تلك الشركات، كما أن المعلن فى القطاع الخاص يبحث عن الصحيفة الأكثر تأثيراً وانتشاراً، وهذا لا يتوافر إلا فى عدد قليل من تلك الصحف، إضافة إلى ظهور صحف أخرى مستقلة سحبت كثيراً من الصحافة القومية.
المؤكد أن الصحافة القومية لن تظل تعتمد فى صدورها على الدعم الحكومى، وسيأتى وقت ليتوقف الخاسر منها، وما أكثره، تماماً عن الصدور مثل البديل، ما لم تفكر تلك الصحف فى كيفية تغطية نفقاتها من جيبها وليس من جيب الحكومة.