قبل أسبوع، وبمنتهى القوة والجدية، أعلن وزير التعليم العالى الدكتور هانى هلال فى مجلس الشعب، عن وجود فائض فى ميزانية البحث العلمى التابع لوزارته، فى موازنة العام المالى 2008/2009، فقرر سيادته بسماحة قلب إعادتها إلى وزارة المالية مرة أخرى.
ربما تصور الدكتور هانى، أنه بهذا التصرف المبدع يحافظ على أموال دافعى الضرائب، وربما يمنحه رئيس الوزراء نيشاناً خاصاً للحفاظ على المال العام، ويقرر الإبقاء عليه وزيراً لأطول فترة ممكنة، لا أستبعد أن يكون هذا فعلاً هو تفكير الوزير الهمام، وربما يجد صدى لدى رئيس الحكومة، وبغض النظر عن صحة هذا الافتراض من عدمه، فإن التصرف فى حد ذاته، كارثة بكل المقاييس، تضاف إلى تل من كوارث الحكومة الذكية النظيفة التى تكره البحث العلمى، كما تكره التعليم رغم أن العلم "نورون"!
منذ سنوات طويلة، تتعامل الحكومات المصرية المتعاقبة مع البحث العلمى والعلماء، باعتبارهم كمالة عدد، يعنى مجرد موظفين أو بطالة مقنعة، وخسارة فيهم ما يتقاضونه من أموال، لذلك فإن ميزانية البحث العلمى فى مصر هى الأقل، مقارنة بدول العالم النامى مثلنا، ولا مقارنة بينها وبين دول كبرى مثل الولايات المتحدة، فمثلاً ميزانية البحث العلمى فى مصر لا تتعدى 300 مليون جنيه فى العام، مقابل 13 مليار دولار فى إسرائيل، و122،5 مليار دولار فى أمريكا و72.8 مليار فى أوروبا و44،6 مليار دولار فى اليابان.
ولأننا نكره العلم، فقد لمع أحمد زويل والبرادعى ومجدى يعقوب وغيرهم من العلماء خارج مصر، بينما لا نستطيع إيجاد أمثالهم داخل الوطن، حتى أن عدد العلماء المصريين فى الخارج بلغ 824 ألفاً، بينما تذكر أكاديمية البحث العلمى أن أكثر من مليون عالم هاجروا من مصر بينهم 620 عالماً فى علوم نادرة، منهم 94 عالماً فى الهندسة النووية و26 فى الفيزياء الذرية و72 فى استخدامات الليزر و93 فى الإلكترونيات والميكرو بروسيسور و48 فى كيمياء البوليمرات، إضافة إلى 25 فى علوم الفلك والفضاء و22 فى علوم الجيولوجيا وعلوم الأرض، بخلاف 240 عالماً فى تخصصات نادرة.
ويبلغ عدد المراكز البحثية فى مصر نحو 350 مؤسسة ومعهداً ومركزاً بحثياً، وإذا تصورنا أن 300 مليون جنيه تقسم عليها بالتساوى، فهذا يعنى أن ميزانية المركز الواحد لن تزيد على مليون جنيه فى العام، أى ما يكفى فقط لتغطية مرتبات العاملين فى تلك المراكز، بينما عليهم أن يقضوا أوقات العمل فى قزقزة اللب!
الغريب أن مصر من أوائل دول أفريقيا وآسيا التى اهتمت بالبحث العلمى، فأنشأت المركز القومى للبحوث عام 1956، ثم أنشأت وزارة للبحث العلمى عام 1963، لكن الغريب أيضاً أن أول رئيس مصرى يهتم بزيارة المركز القومى للبحوث كان الرئيس مبارك، حين زار المركز عام 1986 فى الاحتفالات بمرور ثلاثين عاماً على إنشائه!
ندرك ونعترف بأهمية البحث العلمى، سنظل نستورد شتلات الفراولة والكنتالوب والخوخ من إسرائيل، ونرسل مرضى الكبد القادرين للعلاج فى الصين، ونستورد السيارات الهندية، ونتحدث بانبهار عن التجربة اليابانية والصينية والكورية، ونلعن أبو أمريكا وأوروبا، ونتنظر ما يفيض من علومهم فى كافة المجالات.
وطالما ظل لدينا وزير مثل الدكتور هانى هلال يوفر فى ميزانية البحث العلمى، وطالما لدينا رئيس وزراء لم يزعجه هذا "الشح" العلمى، وطالما لدينا حكومة تكره العلم والمتعلمين، وتعتبر نفسها هى الوحيدة التى تحتكر العلم، وتتعامل بمنطق أنها أبو العريف الوحيد، فقل على مصر السلام، والسلام ختام، لكنه ختام هذا البلد ليس مسكاً