بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
فيقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :
الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية أن اللام في العدل ليست للجنس بل للعهد ، فالمراد بها عدل خاص لا مطلق العدل ، فإن بعضهم فسره بالعدل في الحب ، وهو الذي يدل عليه التفريع بقوله : [ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ ]( النساء : 129 ) وحديث : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن المنذر من حديث عائشة وإسناده صحيح ، وفيه وردت الأحاديث التي أشار إليها السائل ، وفسره بعضهم بالوقاع ، وهو وإن كان فيه من الاختيار ما ليس في الميل الذي هو سببه ، فالعدل فيه محال .
وإذا كانت الآية دالة على أننا لا نكلف هذا العدل الخاص ؛ لأنه غير مستطاع ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، فلا ينفي ذلك أن نكلف العدل المستطاع في المبيت والنفقة وحسن المعاملة في الحديث والإقبال ولو تكلفاً ، ولا وجه لحمل الآية على إثبات كون مطلق العدل غير مستطاع ؛ لأن الآية لا يمكن أن تكون مخالفة للواقع المعروف بالضرورة .
فالوجه الأول :من الوجوه التي ذكرها السائل مسلم ، ولكنه يفيد أن العدل في الميل غير واجب ؛ لأنه غير مستطاع لا مطلق العدل ، ولولا التفريع لكان الأظهر أن يقال : إن العدل الذي لا يستطاع هو العدل التام الكامل الذي يشمل الحب وما يترتب عليه ؛ مما يعلم بالضرورة أنه لا يدخل في الاختيار مهما حرص المرء عليه ولا ينفي هذا ولا ذاك أن يكون العدل المستطاع واجبًا ، وقد تقدم معنى العدل في التفسير من عهد قريب ، وكونه من جعل الغرارتين على ظهر البعير متساويتين في الوزن ، وهذا غير ممكن على حقيقته في الأخلاق والأمور المعنوية ؛ ولذلك قيل : إن العدل التام الكامل هو صراط الحق الذي وصف بأنه أدق من الشعرة وأحد من السيف، وهذا ما كان يحرص عليه المؤمنون طلاب الكمال كما تدل الآية .
وأما الوجه الثاني :فهو لا يدل على كونه مطلق العدل غير واجب كما هو فرض السائل ، وإنما يدل على أن بعض العدل في الميل مستطاع وواجب ؛ لأن الميل قسمان : ميل القلب وما يترتب عليه من ميل الجوارح بالالتفات والإقبال والمؤانسة ، فمن مال إلى إحدى زوجتيه كل الميل ، فجعل الأخرى بذلك محرومة من مقاصد الزوجية كلها ، وهي : السكون والمودة والرحمة ، كان آثمًا لأنه جعلها كالمعلقة التي ليست متزوجة ولا أيمًا ، ومن مال بعض الميل وهو ميل القلب فقط الذي لا سلطان لاختياره عليه فهو غير آثم .
وأما الوجه الثالث :فليس بشيء ، فإن العدل فيمن يقوم المرء بأمر الرياسة عليهم ، ليس ذلاً بل هو العز الحقيقي كالحاكم العادل ، يكون عزيزًا بعدله ظاهرًا وباطنًا .
هذا وإن العدل الذي يدخل في اختيار الإنسان واجب ، حتى في معاملة الأعداء كما هو منصوص في آيات كثيرة ، فكيف يتعلق الاجتهاد بتفسير الآية ، فيما يخالف النصوص القاطعة المعلومة من الدين بالضرورة ؟ .
فظهر بهذا أن من يستدل بالآية على عدم وجوب العدل بين الزوجتين مطلقًا ينكر عليه ؛ لأنه فسرها بما لا تدل عليه ، وبما يخالف النصوص القطعية الكثيرة المعلومة من الدين بالضرورة .
والله أعلم .