قلت لها: وإذا كان هو الآن في رحلة إلي اليابان؟
قالت: آه لو عرف صديقك الدكتور سمير فرج رئيس مدينة الأقصر أن أجاثا كريستي بشحمها ودمها تسكن جناحا في الونتر بالاس في مدينته.. لسبق صديقيك الفنان فاروق حسني ود. زاهي حواس إليها.. وأضاء لها طريق الكباش بالشموع ودقات الطبول!
..............
.............
لمست عجلات طائرتنا أرض مطار القاهرة في نحو التاسعة صباحا..
كنا نقف علي باب الشقة الملعونة قبل العاشرة بخمس دقائق..
قالت لي أعظم كاتبة قصة بوليسية عرفها العالم: اسمع الجريمة كلها وقعت خلال ثلاث دقائق لا أكثر.. ماذا جري خلال دقائق الرعب هذه.. تلك مهمتي..
لا أعرف.. كيف عرف رجال الصحف والمحطات التليفزيونية الأجنبية بخبر وصول أجاثا كريستي.. سكرتيرتي الأروبة لن تفعل أبدا.. حفاظا علي أسرار المهنة.. بعد أن شبع المصورون تصويرا لها علي باب الشقة.. طلبت منهم أن يتركوها في هدوء.. فالجريمة واحدة من أشرس وأعقد الجرائم التي صادفتها في حياتها.
وقفوا في انتظارها علي الباب أعلي السلالم وأمام باب العمارة..
قلت لها همسا: سأبوح لك بسر..
قالت: هات ما عندك؟
قلت: لقد قالي لي أحد أقارب الأسرة المقربين الذي حاول مرارا أن يتدخل ليصلح ذات البين بين الزوجة وزوجها أنه شاهدهما في إحدي جلسات الصلح وما أكثرها يتبادلان السباب والصراخ والاتهامات!
لا أعرف كيف حصلت هذه السكسونية الداهية علي تصريح من النيابة بدخول الشقة الملعونة..
صعدنا معا حتي الدور السادس.. وقفنا أمام باب الشقة.. ولكن لم تطاوعني مشاعري علي الدخول إلي مقبرة الشيطان.. بعد أن تملكتني القشعريرة نفسها التي ظلت تلازمني منذ الصغر منذ حرق حموقة!
قالت لي: لابد من رفع البصمات حتي نعرف هل هناك شريك للقاتل ام لا؟
غابت ساعتين كاملتين.. وخرجت.. لم تصرح بكلمة لأحد.
كل ما قالته لسكرتيرتي النشيطة قبل أن تعود بالطائرة إلي الأقصر: سأترك قصة الدقائق الثلاث المرعبة التي حدثت خلالها الجريمة البشعة مع مساعدتي بعد ثماني وأربعين ساعة.. وكما بدأنا في الأقصر.. التسليم أيضا في الأقصر..
...................
..................
قالت لي أجاثا كريستي وهي جالسة في شرفة فندق الونتربالاس في الأقصر ساعة الغروب.. تمتع ناظريها بمشهد القوارب الشراعية في قرص الشمس الأحمر: اتركني حتي الصباح.. ثم تعال لتتسلم سيناريو مشهد الدقائق الثلاث الدامية..
بعد إفطار مكون من الخبز الأسود المحمص ومعجون الجبن الشيدر مع بيضة مسلوقة نصف سوي وكوب من الليمون دون سكر وقطعة من الكيك الإنجليزي مع فنجان شاي بنصف قالب سكر.. في تراس الونتر الشهير المطل علي حديقة النباتات النادرة..
قالت لي: هاك ما طلبت.. ولا تنس أن تقول في بداية القصة إنني عاشقة لهذا البلد الرائع ولأهله الطيبين..
قلت لها: لك هذا يا سيدتي!
في غرفتي المجاورة في لهفة فتحت المظروف حتي إنه تمزق مني ورحت أترجم من الانجليزية ما كتبته أشهر كاتبة بوليسية عرفها العالم إلي العربية واضعا أمامي قواميس الدنيا كلها: المورد وبعلبكي وإلياس ووستمنستر وإكسفورد وكامبردج..
بخط يدها وبخيالها البوليسي الرائع كتبت أجاثا كريستي تحت عنوان: ثلاث دقائق طائشة مجنونة:
** ظل يقظا طوال الليل في غرفته المطلة علي شارع معتم تماما مثل نفسيته المعتمة بعد أن انطفأت أنوار أعمدته الكهربائية إهمالا أو نسيانا فلم يعد أحد يهتم بباقي صحوة النهار ما إذا كانت كل اللمبات المعلقة بالأعمدة سليمة أم انتهي عمرها الافتراضي..
وحتي هو الآخر انطفأت في صدره آخر مصابيح الأمل بعد عراك طويل مع رفيقة عمره وابنته إيرين وابنه أندرو في آخر مرة زارهم فيها قبل أسبوعين.. لقد سخر منه أولاده وعايرته زوجته التي أحبها بجنون عندما حاول في آخر مرة أن يشعل في حضرتهم سيجارة بانجو. بل وكذلك بالسنة....
الساعة بجوار سريره تشير إلي التاسعة إلا قليلا طلب إفطاره في الغرفة.. تناوله ببطء وكسل شديدين.. ثم أشعل سيجارة.. حتي يهدأ قليلا.. دقات قلبه تتسارع وحبات عرق تغزو جبهته جففها بفوطة صينية الإفطار..
إلي جواره علي الدرج الملتصق بالسرير كانت تقف علي استحياء آخر زجاجة ويسكي.. لم يبق فيها إلا يادوب نصف كأس لا أكثر.. أمسك بالزجاجة ودفعها إلي فمه وأفرغ محتوياتها حتي آخرها في جوفه.. ثم تجشأ وراح يسحب دخان سيجارته حتي آخر نفس..
لقد أصبح الآن تمام التمام وجاهز لما اختمر طوال الليل في دماغه.. لابد أن يؤدب امرأته وولديه علي بذاءتهما من آخر مرة.. يعني إيه أبطل أشرب.. أنا حر.. هما ناقصهم حاجة.. إنه يغرقهم في الهدايا في كل مرة يزورهم فيها.. بل إن أسورة ذهبية سيأخذها إلي زوجته في أول زيارة..
ألم يهد ابنه أندرو عربة فارهة آخر موديل.. ووعد إيرين ابنته عندما تدخل الجامعة بعربة مثلها.. ماذا يريدون منه أكثر من ذلك..
دفع حساب العشرين يوما نقدا وعدا.. فالمال معه بلا حساب بعد أن ورث عن والده عقارات وأطيانا باعها كلها..
منح خدم الفندق بقشيشا سخيا.. ثم انطلق إلي شقته ورأسه تموج بمائة سيناريو وألف حوار.. لكن لابد من تأديب من تطاولوا عليه وعايروه بإدمانه في آخر مرة زارهم فيها..
تحسس جيبه ليطمئن علي مسدسه غير المرخص.. الذي لا يفارقه أبدا بوصفه صعيديا أصيلا.. فهو حاميه ومخلصه من كل من يريد له الأذي أو حتي مجرد الإهانة.. فالمسدس والبندقية عند أهل الصعيد قبل الخبز أحيانا!
هاهي عمارته وهاهي شقته في الدور السادس نوافذها مغلقة من الخارج.. لعلهم نائمون في هذه الساعة.
كان البواب جالسا في مكانه علي الدكة الخشبية..
ـ سلامو عليكو يا عم حسن..
رد عليه البواب: أهلا أسامة بيه نورت العمارة..
زوجة البواب من خصاص حجرتها المطلة علي المدخل شاهدت وتعجبت في نفسها وقالت في سرها: حكمتك يارب.. شقة جميلة وزوجة طيبة وأولاد يردوا الروح.. ويسيب ده كله ويسكن في لوكاندة!
أدخل المفتاح الذي يحتفظ به في فتحة الباب وأداره فلم ينفتح الباب لأن ترباسا من الداخل أبطل مفعول المفتاح من الخارج..
سمع أندرو وهو بين النوم واليقظة صوت محاولة المفتاح الفاشلة.. عرف أنه أبوه الغائب.. جري إلي الباب وصاح بمن في الخارج: مين؟
قال الأب: أنا بابا يا أندرو.. كويس أنكم ساكين الباب بالترباس.. أصل الدنيا ين مالهاش امانم!
فتح أندرو الباب لأبيه وأخذه بالأحضان: