سبق وأشرت في غير مرة، إلي طريقتين ومنهجين تستطيع حضرتك أن تميزهما بوضوح إذا كانت أحوالك الصحية تسمح بخوض مغامرة التأمل في فيض إنتاج إخواننا جنرالات كتيبة الإعلام «الميري» من مواد الدعاية الخايبة والدفاع البائس عن أولياء النعم الذين منحوهم إقطاعيات صحفية وإعلامية مملوكة نظريا للشعب حققوا من خلالها أسباب رفاهة وعيشة هنية وطرية لاتتناسب بالمرة مع مؤهلات أغلبهم وحظوظهم المتدنية من التعليم وأصول المهنة!
فأما الطريقتان فأولاهما وأكثرهما شهرة وشيوعا، هي تلك التي تبدأ وتنتهي بوصلات الردح والتشهير والبذاءة والتوسل بالجهل والكذب الخام الفاضح لصنع صور وهمية عبيطة تجتهد بخيابة لتجميل واقع مادي كئيب يكابد الناس حقائقه المرة علي كل صعيد، لكن هناك طريقة ومنهج آخر ستلاحظ أن نسبة إنتاجه ضئيلة جدا قياسا علي حجم الركام السائد في سوق الإعلام «الميري» وذلك نتيجة ندرة وضآلة عدد المرخصين للعمل في هذه السوق، ممن أتيحت لهم فرص استكمال تعليمهم، وهؤلاء ستجدهم يعتمدون في أداء «الشغلانة» نفسها علي قدر لا بأس به من مستلزمات الشياكة والتأنق، دون المس ـ طبعا ـ بجوهر عملية التزييف والتدليس ومحاولة إلباس باطل الحكومة والنظام ثوب الحق بالعافية وبنسب متفاوتة من الكفاءة والمهارة في المخاتلة والخداع!!
وقد تظن حضرتك أن هذه الطريقة الأخيرة، علي قلة وندرة الزملاء الحكوميين المتمكنين من أدواتها، هي الأخطر والأشد تأثيرا وتخريبا في عقول الناس من منتجات المنهج الأول الذي يتوسل بقلة الأدب النقية الصافية، غير أنني ربما أفاجئك برأي معاكس مؤداه، أن الإنتاج الدعائي والتبريري لهؤلاء الذين يتصورون في أنفسهم (عن حق) ذكاء وتعليما متفوقا علي ما لدي باقي أقرانهم وزملائهم، تكاد فاعليته ـ أو بالأحري خيبته ـ تتساوي إن لم تزد علي خيبة المنتج الآخر الشائع في أبواق الدعاية الحكومية، وعندي ـ تأسيسا وتدعيما لهذا الرأي ـ سببان ومثال واحد حديث وطازج.
وأبدأ بالسببين.. الأول ألخصه في أن رغبة الزملاء المكملين تعليمهم في إظهار تميزهم المتعالي علي أقرانهم المساكين الجهلة يدفعهم إلي المبالغة والإسراف في الحزلقة والتحليق بعيدا في سماوات التهاويم اللفظية والكلام الفخم الفارغ، بحيث لا يعود من يقرأ أو يسمع لهم يفهم شيئا مما يقولونه أو يكتبونه، والسبب الثاني له علاقة بالأثر التسطيحي العميق وتخريب الذوق القوي الذي يحدثه الزملاء الحكوميون الغلابة في وجدان ورؤوس جمهورهم (لو كان لهم جمهور أصلا) ما يؤدي إلي كساد وبوار بضاعة التبرير والكذب المتحزلقة ومعاناتها من «أنيميا» وفقر مدقع في الجماهيرية!!
وأختم بالمثال الذي رأيت فيه نموذجا صارخا يجسد علي نحو بليغ أزمة الفصيل المتحزلق في الكتيبة الإعلامية الحكومية، وهو نموذج انتشلته بمنتهي اليسر والسهولة من مقال فادح الطول وشاسع المساحة كتبه الزميل الدكتور عبدالمنعم سعيد ونشره أمس الأول في صحيفة «الأهرام» التي يرأس إدارتها، تحت عوان «تغيير حالة الوطن»، ففي هذا المقال اجتهد الدكتور (علي طريقة الدكاترة) لكي ينزع المعقولية عن ظاهرة الدكتور محمد البرادعي ويحرم الرجل من شمائل ومميزات التقطها قطاع واسع جدا من المجتمع ونخبته النزيهة المحترمة فوقفوا خلف فكرة اتخاذه عنوانا للمرحلة الحالية من كفاحنا الطويل للخلاص من نظام حكم مزمن لا يفوق فساده وقمعه إلا فشله وانحطاط قدرته علي الإنجاز في أي مجال، وكالعادة توسل الدكتور عبدالمنعم لتحقيق هذا الهدف بترسانة هائلة من التهاويم الفكرية واصطناع مشاكل نظرية وهمية، دون أن ينسي خلط الأوراق والتلاعب بالحقائق والأرقام من أجل تسويغ استمرار الوضع القائم وإبقاء الذين صنعوه في أماكنهم وعلي كراسيهم التي نخر فيها السوس بينما هم رازحون علي قلب الوطن ثلاثة عقود بأكملها!!
لكن الدكتور، وهو في حمأة التحزلق، فاجأ الصابرين علي التسكع في دروب مقاله باستخدامه قولا مأثورا نسبه لـ «ألبرت أينشتين» لا يؤدي ولا يفيد سوي المعني المعاكس تماماً لما كان يريد أن يلقيه في روع قرائه، هذا القول هو: «.. من قمة الغباء أن تفعل ما تفعله مراراً وتكراراً ثم (تتوقع) أن تحصل بعد ذلك علي نتائج مختلفة»، وقياساً علي ذلك ـ يادكتور ـ فإن من قمة الغباء أن تبقي علي من فعلوا بنا وبالوطن كل هذا الخراب ثم تنتظر «تغيير حال الوطن» للأفضل.. أليس كذلك؟!