لايملك أى باحث أو سياسى مسئول ــ مصريا كان أو عربيا ــ أن
يتجاهل المشاكل الكبيرة والكثيرة التى تحيط بنا فى مصر وعلى امتداد
العالمين العربى والإسلامى انتهاء بمشاكل العلاقات الدولية المعقدة التى
لها علينا جميعا تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة، كما لا يملك الباحث أو
السياسى أن يسارع إلى اقتراح حلول عملية لتلك المشكلات قبل أن يجدد قراءته
للمشهد القائم فى كل من هذه الساحات، وأن يستجلى عناصرها استجلاء موضوعيا
يرتفع فوق دواعى المبالغة والتهويل كما يرتفع فوق أسلوب الاعتذار والتهوين.
وهذه
القراءة الموضوعية لعناصر المشهد القائم هى ما نحاول تقديمه فى هذه
السطور، إحساسا بأننا ــ مصريين وعربا ومسلمين ــ قد صرنا أمة «فى خطر»،
فوق أننا أمة «مسبوقة»، وأن الوقت المتاح لنا للإفاقة واستدراك ما فات قد
أصبح محدودا على نحو لا يسمح ــ مطلقا ــ باستدامة كثير من أوضاعنا
القائمة، بل إن هذه الاستدامة قد تكون ــ لا قدر الله ــ دعوة واعية أو غير
واعية تستدعى المجهول..
فعلى الساحة المصرية تستوقف النظر عدة أمور
يتحدث عنها ويشكو منها أكثر المصريين:
1ــ أولها انتشار روح مدمرة من
الشك وانهيار الثقة المتبادلة بين الأفراد، وتلك المتبادلة بين الأفراد من
جانب وبين المؤسسات الدستورية المختلفة بما فيها الأحزاب السياسية ومنظمات
المجتمع المدنى من جانب آخر حتى صار أكثر هؤلاء «بعضُهم لبعض عدو»، ولا
يجوز ــ فى هذا الشأن ــ الالتفات إلى مكابرة المكابرين ــ سواء كان مصدر
هذه المكابرة غفلة أو تغافلا متعمدا عن أى من هذه الحقائق المقلقة التى
تصرخ فينا كل صباح وكل مساء.
2ــ كما تئن الساحة المصرية أنينا
شديدا مما نلاحظه جميعا من تراجع خطير فى أداء كثير من المؤسسات المسئولة
عن توفير الإنتاج وتقديم الخدمات بأنواعها المختلفة، وهو تراجع تشكو منه
الأغلبية العظمى من المصريين ويجد شاهده العملى فى تراجع الطلب من جانب
كثير من الدول العربية وغير العربية على الكفاءات المصرية من خريجى المعاهد
التعليمية المصرية على اختلاف درجاتها بعد أن كان لهذه الكفاءات مكان
الصدارة والريادة فى أكثر بلدان العالمين العربى والإسلامى..
3ــ
كما تشهد الساحة المصرية ظاهرة خطيرة تقرع سمع الباحث والسياسى وتستوقف
نظرهما مؤداها توجه كل أحد إلى إلقاء المسئولية عن التراجع وعن مباشرة
الإصلاح على أكتاف غيره من الأفراد والمؤسسات دون أن يحدد لنفسه نطاق قدرته
هو ومسئوليته ودوره الذى عليه أن يؤديه طول الوقت حتى إذا قصّرَ آخرون فى
أداء واجبهم، إننا نشهد هذه الأيام حوارا غريبا يتدهور فى كثير من حالاته
إلى أن يصبح مبارزة يتبادل أطرافها اللوم القاسى والاتهام الصريح..
وفى
إطار هذا الجدل غير الودى تحاول كثير من أجهزة الدولة ومن المتحدثين
باسمها إلقاء المسئولية الكبرى على الشعب وعلى القيم السلبية السائدة بين
أفراده والسلوك القاصر أو المعيب الذى تتعثر بسببه خطى الإصلاح فلا تصل إلى
تحقيق عوائدها وأهدافها التى كانت تنتظرها، فضلا عن إدمان الشعب للمبالغة
فى رؤية الثغرات ورصد العثرات مع إنكار منهجى لكل ما يتحقق من نجاح لبرامج
ذلك الإصلاح فى العديد من مواقع العمل..
وفى الجانب الآخر يصر
الشعب على أن ما وصلنا إليه من انتشار روح التواكل مرده إلى تقصير أجهزة
الدولة فى أداء واجباتها، فضلا عن أن سلوك الناس تتحكم فيه وتؤثر على جودته
علاقتهم بالدولة وأجهزتها، ومدى قدرتها على إقامة علاقة سوية مع أفراد
المجتمع، جوهرها الصدق والشفافية والمصارحة بالحقائق والوفاء بالوعود..
وبهاتين الرؤيتين المتناقضتين يصل البحث عن أسباب الأزمة وطرق علاجها إلى
طريق مسدود يهدد حركة المجتمع كله بالشلل والجمود، إذ ينتظر كل طرف من طرفى
«معادلة الشعب والحكومة» قيام الطرف الآخر بدوره وأدائه لواجبه قبل أن
يؤدى هو أى جزء من أجزاء واجبه..
4ــ وعلى الساحة ــ فوق ذلك كله ــ
موجات للهروب من الواقع ورفض الاعتراف بالعجز أو التقصير ونقل المسئولية
عن كل عناصر الأزمة إلى خارج الساحة الوطنية عن طريق «تعظيم» دور القوى
الأجنبية والإصرار على أن هناك ــ طول الوقت ــ مؤامرات أجنبية محبوكة تحول
دون نجاح أى مشروع وطنى للإصلاح، وبهذا المنهج الهروبى يخدع الشعب نفسه
ويظل حبيسا لهذه الرؤية التى تبدأ وتنتهى بعيدا عن إدراك أفراد الشعب
مسئوليتهم عن تردى أوضاعنا العامة واحتمال أن يكون هؤلاء الأفراد شركاءهم
أيضا فى هذه المسئولية.
وليس من قبيل المصادفة أن تصدر فى مصر خلال
السنوات العشر الأخيرة أكثر من أربعة كتب تتحدث عما جرى للمصريين، كما
يتحدث بعضها عن أزمة العقل العربى و«نقد العقل المسلم» ــ وهو ما سنعود إلى
التأمل فيه فى نهاية هذه الدراسة.. ومع ذلك كله فمازلنا نؤمن بأن الخيار
الوحيد السليم والمتاح لكل مصرى مسكون بالأمل فى الإصلاح الشامل هو
الاستيثاق من أن مشاركته تساهم ــ مع جهود الآخرين ــ فى الإمساك بخيوط
المشكلات وخطوط الإصلاح، وأنها لا تصب أبدا ــ مهما كانت بواعثها ــ فى
خانة استدامة المشاكل وتأجيج موجات الصياح والصراخ، ونشر روح التشاؤم
واليأس والإحباط..
إن مصر ومعها العالمان العربى والإسلامى تحتاج
ــ فى ظل الأزمة التى تمر بها ــ إلى كتائب وطنية من مهندسى البناء
والإنشاء والتعمير المُصِّرين فى عزم على مباشرة الإصلاح والوصول به إلى
غاياته عن طريق إيقاظ الهمة وزرع الأمل، ولا تحتاج أبدا إلى كتائب مقاولى
الهدم وزرع اليأس ونشر روح الإحساس بالعجز والضعف والهوان.. من هذا المنطلق
ــ ومنه وحده ــ وبهذه النية الخالصة نكتب هذه السطور متوجهين بها إلى
جهات ثلاث:
جهة أولى الأمر وصناع القرار ممن وكَلت إليهم الأمة، أو
وكَل بعضهم لنفسه السلطة والمسئولية عن إدارة مجتمع «كل المصريين»، وتشمل
هذه الجهة جميع المؤسسات الدستورية (التشريعية والتنفيذية والقضائية)
وأشخاص رؤسائها وأعضائها، والمحيطين بهم من مقدمى الرأى والمشورة، سواء
كانوا من المخلصين لهم ولوطنهم وأمتهم أو كانوا ممن يطلق عليهم بعض
الباحثين وصف «أصحاب الأجندات الخاصة» الذين يخدمون مصالحهم الشخصية أو
الفئوية عن طريق الاقتراب «الوصولى» من أولى الأمر، وبناء جدار محكم عازل
من حولهم يحول بينهم وبين التواصل مع جماهيرهم الحقيقية التى هى وعاء قوتهم
power base وسند شرعيتهم source of legitimacy.
نعم نحن نعرف أن
لأولى الأمر علينا حق المؤازرة والمساندة، ولكن لنا عليهم ــ مقابل هذه
المساندة ــ حق المشاورة والمصارحة والمناصحة وما يقتضيه ذلك من إحترام رأى
الجماهير وحسن الاستماع إليها حين تعبر عن إرادتها من خلال «القنوات
الشرعية» وفى مقدمتها قناة الانتخابات التشريعية التى لا يصاحبها تدخل
بالترغيب «المضِّل» أو الترهيب «المذِّل» وكلها خطايا كبرى تسد فاعلية هذه
القنوات،
ويلجأ الناس بسببها ــ معذورين ومضطرين ــ إلى قنوات أخرى
لم تنشأ أصلا لممارسة هذا «التعبير السياسى الفعال»، ويصف علماء السياسة
وفقهاء القانون الدستورى هذا اللجوء الاضطرارى بأنه ثمرة لوقوع «انسداد فى
قنوات الإصلاح الذى تقوم عليه العملية الديمقراطية obstruction in the
remedial channels of the democratic process.
إن من حقائق المشهد
السياسى القائم أن جانبا كبيرا من أبناء مصر المخلصين لم يعودوا يشعرون
بتوافر الحد المعقول من الثقة بفاعلية القنوات الشرعية لتحقيق مشاركتهم «فى
حكم أنفسهم»، ولذلك لجأوا إلى واحد من بديلين:
البديل الأول :
استخدام بعض قنوات التعبير فى
غير ما خصصت له، وتمثل ذلك بصفة خاصة فى تحول أكثر النقابات المهنية إلى ما
يشبه الأحزاب والتجمعات السياسية.. ولا نبالغ مطلقا إذا قررنا أن النشاط
السياسى للنقابات قد غلب على دورها المهنى الذى أنشئت من أجله.. وآل هذا
الوضع المؤسف إلى رد فعل من جانب الحكومة هو ــ فى تقديرنا ــ أفدح ضررا
وأشد خطرا على مستقبل العلاقة بين المواطنين والدولة إذ لجأت الحكومة إلى
تعطيل تلك النقابات وفرضت عليها وصاية محكمة عن طريق وضعها تحت الحراسة
مُعَطِّلَة بذلك دورها، وحارمة أبناءها من كل صور المشاركة الحرة فى إدارة
شئونهم المهنية، ومازال هذا الوضع المؤسف قائما دون أن يجد له حلا مقبولا
من أطرافه..
ودون أن يدور من حوله حوار جاد وعاجل يفضى إلى إنهائه
فى أقرب وقت مع أن هذا الإنهاء جدير بأن يصفى إحدى «بؤر التوتر» الحاد فى
حياتنا العامة، ومن العجب أن تغيب هذه الحقيقة عن وعى بعض المسئولين عن
استدامة هذا الوضع الشاذ الذى لا نستطيع أن نجد له مبررا معقولا.
البديل الثانى:
أن يستولى على أكثر الناس اليأس
من إصلاح هذه الحال وأن يتحول إلى ضياع للثقة فى مؤسسات الدولة والقائمين
عليها، على نحو يفضى بهؤلاء اليائسين إلى نوع من «الاستقالة الصامتة» من
العمل العام وبذلك يصيب الشلل ساحة هامة من ساحات هذا العمل، ويفقد النظام
ــ بغير ضرورة أو حاجة حقيقية ــ جزءا كبيرا من تأييد «مصدر قوته وسند
شرعيته».. ولست أدرى ــ فى الحقيقة ــ أى البديلين أشد خطرا وأفدح ضررا،
ولكنه فى الحقيقة وضع مثير للقلق ومهدد لمحاولات الإصلاح السياسى والمجتمعى
فى مستقبله القريب والبعيد، ومنذرٌ ــ بذلك كله ــ بفتح الأبواب لاستدعاء
المجهول الذى لا يغامر شعب عاقل باستدعائه.
(ب)ــ أما الجهة الثانية
التى يتوجه إليها بعض هذا الحديث، فهى الحزب الوطنى الذى كثيرا ما يوصف
بأنه «حزب الحكومة» التى توصف هى الأخرى بأنها «حكومة الحزب».. وهذا الشعار
على بريقه اللغوى، لا يعبر ــ فى تقديرى ــ عن حقيقة الوضع، فلا أظن أن
كثيرا من أعضاء الحكومة يشعرون حقيقة بأنهم «حكومة الحزب»، كما لا أظن أن
قيادات الحزب وكثيرا من أعضائه يشعرون حقيقة بأنهم «حزب الحكومة» ولعل
الجامع الأساسى بينهما هو رئاسة رئيس الجمهورية للحزب، ورئاسته فى الوقت
نفسه للسلطة التنفيذية.
وفى سياق التطور التاريخى لنظامنا الحزبى فى
مصر، انتقالا من نظام «الاتحاد القومى» ومن بعده «الاتحاد الاشتراكى» إلى
نظام «المنابر» الذى ظهر ولم يدم طويلا داخل الاتحاد الاشتراكى، ثم انتقالا
إلى حزب مصر الذى ظل ــ مع ذلك ــ امتدادا باهتا وارثا للاتحاد الاشتراكى،
نابعا من فلسفته الأساسية باعتباره حزبا واحدا جامعا لممثلى قوى الشعب
العامل، هذا النظام الحزبى الواحدى أخذ ينتقل تدريجيا إلى «الحزب الوطنى»
الذى صار يتمتع عمليا «بمركز ممتاز» preferred position داخل النظام
الحزبى، وهو انتقال كان من شأنه إضعاف الحكومة دون أن يحقق تلقائيا تقوية
حقيقية للحزب الذى لا يزال ــ لسوء حظه ــ يلازمه فى وجدان كثير من الناس
إحساس بأنه «حزب الدولة» الواحد ولا تزال علاقته الحقيقية بجماهير المصريين
تنقصها الحرارة و«الحميمية»، حتى إذا نحينا جانبا شعور بعض قيادات الحزب
بالاستعلاء نتيجة الانفراد.
بتأييد خاص من جانب الدولة لهم ولأعضاء
الحزب على حساب وضع سائر الأحزاب السياسية التى اعتراها الضعف و الهزال
وروح اليأس من التمتع «بحماية متكافئة» تجعل المنافسة السياسية بينها وبين
الحزب الوطنى منافسة حقيقية شفافة يتساوى فيها الحزب الوطنى مع غيره من
الأحزاب فتتحقق بذلك فريضتا الحرية والمساواة فى ظل إدراك أن الصفة الأولى
لرئيس الجمهورية فى ظل دستورنا القائم أنه «رئيس وأب لكل المصريين» قبل أن
يكون رئيسا لحزب من أحزابهم..
وفى تقديرنا أن هذه المعادلة شديدة
التعقيد.. وأنها ــ فى الممارسة ــ أشد تعقيدا وأكثر صعوبة خصوصا أن رئاسة
الرئيس لمنصبه كرئيس للجمهورية تسبق فى الترتيب الزمنى فوز حزبه فى
الانتخابات، وإنما هما فى الواقع وفى الترتيب الزمنى أمران منفصلان تتم
ممارستهما فى تباعد موضوعى وزمنى على نحو لا تجدى معه محاولات التقريب التى
لا تغير كثيرا من حقيقة الوضع القائم ومن احتمال تداعى آثاره السلبية على
مجمل نظامنا الحزبى.
لقد تمنيت ــ ولا أزال أتمنى ــ أن يبدأ رئيس
الجمهورية ما سميته يوما «ثورة سياسية ومجتمعية بيضاء» يُسقِطُ بها عن
المشهد السياسى هذه المفارقات «اللامعقولة» ويفتح بذلك بابا واسعا للتغيير
السلمى نحو الأفضل برغم مكابرة المكابرين من حملة المباخر الذين يضنون
بالمشورة الصادقة إيثارا لاعتبارات ليست جديرة بالاعتبار على حساب مصالح
وطنية وقومية واضحة جديرة ــ وحدها ــ بكل اعتبار..
إن الإصرار على
المكابرة يزيد العلاقة بين الشعب ومؤسساته الدستورية تعقيدا وصورية، فى
مرحلة لا تحتمل شيئا من هذا على الإطلاق، وإنما تحتاج فيها مصر إلى تجميع
قواها وإلى توافق جوهرى حول اتجاه نشاطها المؤسسى والشعبى والحزبى، وإلى
خلق روح جديدة من الثقة المتبادلة يسترد بها المجتمع السياسى عافيته،
ويتوقف معها هذا الاشتباك القائم بين جميع القوى الوطنية مؤديا إلى انصراف
كثير من المصريين عن المشاركة النشيطة بحرية واختيار وأمل فى التصدى
للتحديات الكبيرة التى تواجهها مصر فى ظروف محلية وإقليمية ودولية تهدد
المستقبل كله تهديدا يعلو صوته على كل أصوات المكابرين ممن يصرون على أننا
قادرون على احتواء جميع الأخطار وأنه ليس فى الإمكان أبدع ولا أروع ولا
أفضل مما هو قائم، وهو إصرار يدخل بدوره فى إطار «اللا معقول» الذى يصعب
فهمه،
كما يصعب فهم الإصرار عليه مع وضوح عجزه عن علاج الأزمة التى
تحتاج إلى احتشاد المصريين جميعا لهذا العلاج، فى انسجام وطنى و«ثقة
متبادلة» وتطلع إلى مستقبل أكثر أمنا وحرية ورخاء يتمتع بها جميع المصريين،
وهو مستقبل يستحيل أن تبنيه ــ فضلا عن أن تستحقه ــ أمة منقسمة على
نفسها، تتبادل اللوم والاتهام كل صباح وكل مساء، ومازلت ــ كذلك ــ أتمنى
على الحزب الوطنى أن تتواضع قياداته وألا تتسرع فى تصورها أنه بالانضباط
التنظيمى الداخلى والتجديد الهيكلى والثقافى وحدهما يتحقق ارتباط الجماهير
بالحزب، والتفافها حوله.
إن الحزب الوطنى يستطيع ــ إذا أرادت
قياداته وأدرك أعضاؤه ــ ضرورة أن يتحول من حزب واحد، وهو ما يوشك إن يؤول
أمره إليه، إلى حزب رائد فى ظل «فكر جديد حقيقى» تجسد شعاراته وأساليب عمل
قياداته ومواقف تنظيماته مبادئ التعددية الحقيقية، وتداول السلطة وضرورة
توفير الحرية والنزاهة الكاملة لكل العمليات الانتخابية التى تظل دائما
المدخل الأول والدليل الذى لا يُرد على صدق وجدية المشاركة الشعبية.
ورغم
أن كاتب هذه السطور لا يملك الأدلة الكافية على دقة وصحة الاتهامات التى
وجهت لإدارة الانتخابات الأخيرة لعضوية مجلس الشورى، فإن قرائن كثيرة
وشواهد لم يكذبها أحد من شأنها أن تثير لدى جماهير الناس شكا مشروعا فى مدى
صدق الوعود المبذولة بالحرص على نزاهة الانتخابات، وهو شك من شأنه أن يمتد
ــ أردنا أو لم نرد ــ إلى الانتخابات التشريعية المقبلة، وما سوف يعقبها
من انتخابات رئاسية.
إن الوقت ــ فى تقديرى لايزال متسعا لتدارك
الأمر، ونحن ندعو إلى هذا التدارك الذى لا بد منه ولا سبب يدعو إلى التردد
فيه، لأننا نعرف من قيادات الحزب أصدقاء جمعنا بهم عمل مشترك فى مراحل
سابقة من عمرى وعمرهم.. كما أعرف من شبابه وشباب سائر الأحزاب والجماعات
شبابا وطنيا مخلصا صاحب كفاءة ومقدرة، ولكن تأثيرهم الإجمالى داخل الأحزاب
وخارجها لا يزال ضعيفا وباهتا.
(ج) وأما الجهة الثالثة التى أتوجه
إليها بهذا الحديث فهى صفوة المثقفين من الساسة والعلماء والكتاب وأهل
الخبرة العملية والعلمية بالشأن العام، الواعين بعناصر المشهد المصرى
والعربى والإسلامى والواعين كذلك بما يجرى فى العالم كله من تغيرات كبرى
علمية وسياسية واجتماعية وثقافية لا يملك المصريون والعرب ولا المسلمون أن
يعزلوا أنفسهم عنها فى عصر سقوط الحواجز والتقاء الثقافات على «أمر قد
قدر»، فهم جميعا مسئولون أمام شعبهم وأمام التاريخ وأمام الله تعالى «عما
يُسأل عنه الأنبياء» وعلى عاتقهم يقع جانب كبير من المسئولية عن إخراج
الأمة كلها من عنق الزجاجة الذى يكاد يخنق أنفاسها ويعطل مسيرتها.. والمدخل
لأدائهم هذا الدور التاريخى أمور ثلاثة..
أولها : التوقف الفورى
عن حالة الاشتباك العبثى القائم بين أفرادهم وجماعاتهم وقياداتهم ومذاهبهم
السياسية والإيديولوجية، وأن يكفوا عن الاكتفاء بتوجيه اللوم والاتهام
للآخرين حتى تتوجه طاقاتهم كلها وخبراتهم المتراكمة لمواجهة التحديات التى
تحيط بنا وتمتد إلى جميع جوانب حياتنا..
ثانيا : الاقتراب من «أولى
الأمر» وأصحاب القرار والإصرار على مناصحتهم وتقديم المشورة لهم فى أمانة
وصدق وموضوعية وشجاعة، لا يخشون معها لومة لائم.. وهذا الاقتراب من شأنه
ترشيد حركة المجتمع كله على طريق الخروج من الأزمة والانطلاق بشعوبهم إلى
طريق نهضة جديدة..
ثالثا : زيادة تواصلهم مع منظمات المجتمع
المدنى، ومع جميع التجمعات الحزبية والشعبية وتحريك روح التعلم والتدريب
والتأهيل داخل هذه المنظمات التى يؤكد الرصد واستشراف المستقبل القريب
أهمية دورها وتعاظمه يوما بعد يوم.
إن فى المجتمع المصرى حراكا
يعبر عن رغبة أكيدة فى التغيير، وهو تغيير يتجاوز مجرد تغيير الأشخاص، إذ
لا قيمة لتغيير الأشخاص ما ظلت القيم السياسية والاجتماعية السائدة على
حالها، وما بقيت المفاهيم الأساسية التى تحكم حياتنا على حالها الذى لايكاد
يرضى أحدا.. ومفاتيح هذا التغيير تستقر فى أيد ثلاثة.. يد المؤسسات
الدستورية، ويد الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية فى هذا التغيير..
وأخيرا تأتى اليد الثالثة وهى يد النخبة المثقفة من العلماء والباحثين
وأصحاب الرأى فى الشأن العام..
ويستطيع هؤلاء أن يقوموا بدور
المحرك والمنسق بين قوى التغيير، لاوصاية على تلك القوى، وإنما تجميع
لصفوفها، وترشيد لحركتها، وتأمينا لنشاطها.. وشرط ذلك كله أن تحافظ هذه
اليد الثالثة على نقائها وصفائها وتجردها، وابتعادها عن كل صور النفاق وكل
صور التورط فى اتباع الهوى وخدمة المصالح الشخصية والفئوية.. إن «نقاء
الصفحة» وشفافية «الصورة» ومطابقة السلوك للشعارات والمبادىء المعلنة هو
الضمان الأكبر لفاعلية الدور الذى تؤديه هذه اليد الثالثة.
5ــ ولا
نملك ونحن نحاول تحديد معالم «المشهد السياسى» القائم أن نتجاهل ما أوشك
أن يستقر فى الوجدان العام من أن «الفساد» بصوره ومظاهره المختلفة قد ازداد
انتشارا فى أكثر خلايا المجتمع على نحو غير مسبوق فى حياتنا السياسية
والإجتماعية..
والواقع أن الشواهد على انتشار الفساد خلال السنوات
الأخيرة وعلى تأثيره السلبى الحاد على التزام المجتمع كله بسيادة القانون،
وبمساواة الناس أمام أحكامه بحيث يصل صاحب الحق إلى حقه.. هذه الشواهد لم
تعد تحتمل المجادلة أو المكابرة حتى صار السكوت عليها من جانب أفراد
المجتمع والمشتغلين بالعمل العام منهم مشاركة غير مباشرة فى استفحال الفساد
وزيادة انتشاره وتحوله إلى «وضع عام» تضيع معه الحقوق وتفوت المصالح
وتزداد بذلك كله الفجوة بين المستفيدين منه القادرين على توظيفه لتحقيق
مصالحهم غير المشروعة على حساب الملايين من العاجزين عن هذا التوظيف
المتفردين بالمعاناة وتردى أحوال المعيشة وصعوبتها المتزايدة..
إن
محاربة هذا الفساد بجميع صوره ينبغى أن تكون أولوية كبرى فى برنامج الحكومة
وسائر المؤسسات الدستورية، كما ينبغى أن تكون ركنا أساسيا فى برامج
الأحزاب والجماعات السياسية وجماعات المثقفين وحاملى المسئولية مع سائر
المؤسسات الدستورية عن إصلاح الأحوال.
6ــ ومن الظواهر التى لازمت
مجتمعنا فى السنوات الأخيرة، والتى صار تأثيرها على الاستقرار السياسى
والسلام الاجتماعى يثير قلقا مشروعا لدى المراقبين للمشهد السياسى
والاجتماعى ظاهرة الاتساع المتصاعد للفجوة بين فئتين من فئات الشعب، فئة
الأغنياء من أصحاب الثروات المتراكمة والمشروعات التى تدر على أصحابها
عائدا يزيدها ثراء واستغناء، كما يزيد من تأثيرها ــ بوسيلة أو أخرى على
مسار الحياة السياسية والعامة فى مصر..
أما الفئة الثانية فهى فئة
الفقراء والمعدمين من الكادحين الذين لا يجدون سندا ولا تمكينا من صاحب
سلطة أو صاحب ثروة.. يعينهم على الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية
التى يكفلها لهم الدستور، ويقف فى طريقهم إليها واقع مجتمعى مختل لا سبيل
إلى إنكاره.. لقد آل أمر هذه الفجوة إلى أن انقسم المجتمع المصرى إلى
مجتمعين اثنين ولم يعد مجتمعا واحدا.. لكل واحد من هذين المجتمعين همومه
وشواغله وأولويات نشاطه التى تختلف جميعها اختلافا كبيرا عن هموم وشواغل
الفئة الأخرى..
فالفقراء الكادحون مشغلون بكيانهم كله وأعصابهم
كلها بمتاعب الحصول على ضروريات الحياة ولقمة العيش والحد الأدنى من العلم
لأولادهم، ومن الرعاية الصحية الأساسية لأفراد أسرهم ومن مواجهة البطالة
التى تلتهم فرص خريجى المعاهد التعليمية الحكومية المختلفة فى الحصول على
دخل معقول أو قريب من المعقول يسمح بالحصول على مسكن ولو كان فوق سطح مسكن
أو تحت سطح الأرض التى يعلوها مسكن.. إن مشاعر التواصل والتفاهم والتعاون
بين طبقات المجتمع قد صارت مهددة فى صميمها بنوع جديد من العلاقات أساسه
الإحساس بالظلم والقهر وضآلة الفرص، وتحمل المسئولية عن هذا الظلم فئتان
أخريان من فئات المجتمع، هما فئة الحكام أصحاب القرار فى مؤسسات الدولة..
وفئة الأغنياء الذين يملكون التأثير على أصحاب القرار.. كما تسمح لهم القوة
المستمدة من ثرواتهم بمواصلة رحلتهم التى لا تتوقف سعيا إلى تراكم مستمر
للثروات يدفع ثمنه الفقراء فيزدادون تهميشا وفقرا..
إن هذه الروح
الجديدة التى أخذت تعبر عن نفسها خلال السنوات الخمس الأخيرة بوسائل تقع
على الحدود بين حق التظاهر والمطالبة بالإصلاح وهو حق دستورى وسياسى لا
ينبغى الخوف من عواقب استعماله , وبين الشروع فى التمرد على القانون
والقنوات الشرعية التى ينظمها الدستور للتعبير عن الرأى والشكوى للحكام..
وإن تجاهل التغير الذى طرأ على العلاقة بين فئات المجتمع يفتح الطريق ــ لا
محالة ــ إلى شر كبير قد لا يتيسر احتواؤه.. وإن على المخططين وراسمى
السياسات الاقتصادية أن يوقدوا الضوء الأحمر وان يوجهوا جانبا من جهدهم
واجتهادهم لإعادة الائتلاف وروح التعاون بين طبقات المجتمع.. ولنتذكر جميعا
أن الفقر والقهر إذا ذهبا إلى بلد قال لهما «الكفر والغضب المدمر» خذونا
معكم.
وليتنا جميعا نستشعر ضخامة المسئولية الملقاة على أبناء
جيلين من أجيال المصريين.. جيل الآباء وجيل الأبناء والأحفاد.. فيواجه
بعضنا بعضا بكلمة الحق فى رفق ومودة لا تجرح ولا تستفز، ولكنها ــ مع ذلك،
بل قبل ذلك ــ لا تقصِّر ولا تداور فى إرسال الرسالة الصحيحة الصادقة لأولى
الأمر ولأبناء مصر جميعا، حتى لا تكون فتنة، وحتى لا يكون بعضنا شياطين
خرساء، وهم يملكون أن يكونو