صباح اليوم، على موقع السد العالى جنوبى أسوان، يقف حشد من كبار الرجال يحضرون بداية عمل كبير.
وحشد الرجال الكبار أمام العمل الكبير مشهد مثير، وليس أقل منه إثارة - صباح اليوم فى أسوان - حشد أحداث التاريخ.
إن
أطياف أحداث ضخمة تسرى اليوم تحت الشمس الساطعة، وتطوف منسابة حول كتل
الصخر الصلدة الصامدة على جانبى النهر عند موقع السد العالى.
أطياف أحداث ضخمة أبت أن تذهب إلى رحاب التاريخ إلا بعد أن ترى المشهد الأخير فى القصة الكبرى التى كانت هى نفسها بعض مواقفها.
على
موقع السد العالى اليوم عند أسوان أطياف مواقف سياسية كبرى وتطورات متلاحقة
تسابقت وتدافعت وشقت على مجرى التاريخ طريقها عميقاً وعريضاً وثابتاً.
أطياف
مواقف ضد الاستعمار حتى حمل عصاه على كاهله ورحل، ضد حلف بغداد حتى سقط،
ضد مناطق النفوذ حتى تقلصت، ضد الانحياز حتى استقام الطريق إلى عدم
الانحياز، ضد نزع السلاح الذى كان مفروضاً علينا مرفوعاً عن أعدائنا حتى
توفر لنا ما أردنا منه، ضد الاحتكارات المتخلفة من بقايا القرن التاسع عشر
حتى عادت القناة إلى شعبها لتكون له بعد أن كان لها.
أطياف
معارك من أعظم معارك الحرية وأخلدها وأبقاها، جيوش تتحرك نحونا تحت
الظلام، أساطيل تظهر مع الفجر أمام شواطئنا، طائرات تغير على آفاقنا، قنابل
تهوى ومظلات، مدافع تهدر وصواريخ ودبابات، عواصف ورعود وبروق.
وشعبنا الصغير الباسل يواجه هذا كله بتصميم وعناد، والصرخة المنطلقة من كل حنجرة: قتال حتى آخر طلقة وآخر رجل.
ومضت
طبولنا تدق، وأعلامنا صامدة للرياح، وأصداء أناشيدنا تسرى على الحقول
الخضراء وعلى الصحارى، وتتجاوب مع الهمسات الأخيرة لشهدائنا ومع الأنات
المشحونة بالكبرياء من جرحانا.
أطياف صور من أروع الصور وأمجدها فى حياة كفاح الشعوب.
شعب
أراد أن يعيد بناء حياته فمنعوه، أصر فصدوه، مضى فى الإصرار فقاوموه، أصر
على الإصرار فحاولوا قتله، ولم يسقط ولم يقع بل مضى والرصاص فى جسده،
وقطرات الدم النازف من جراحه ترسم طريقه، حتى وصل إلى موقع السد -رمز
البناء- فقبع فيه تحفزاً واستعداداً للبناء.
وتركوه
هناك على الصخور وعادوا، يقولون لأنفسهم، والشماتة ملء ضلوعهم: لم يعد
يملك إلا العجز، ولم يعد قادراً على غير الركوع. ولسوف ترغمه الأيام على أن
يتخلى عن حلمه فى البناء وينساه.
وهو اليوم بكل قواه واقفاً هناك على الصخور؟
والأيام؟ ماذا فعلت به الأيام؟
لقد أرغمها على أن تتقبل حلمه، وعلى أن تفسح بينها أجملها وأحلاها ليكون يوم البناء.
ويا
أيها الواقفون صباح اليوم على موقع السد العالى فى أسوان، تتابعون -
بعيونكم وآذانكم - حشد الرجال الكبار أمام العمل الكبير... افسحوا المجال
بينكم لأطياف التاريخ، إنكم - بالفكر والشعور- سوف تلمحونها بالقرب منكم،
تسرى مع أشعه الشمس الساطعة، وتطوف منسابة حول كتل الصخر الصلدة الصامدة
على جانبى النهر المقدس.