ليست الوثنية وقفاً على عصر بعينه, فالاوثان الالهة تتواجد متعدّدة من مختلف الانواع في أنظمة القهر عموماً, حيث لكل فئة باغية وثنها المؤلّه الساهر على رعاية مصالحها الانانية, والمال هو وثن الفئة الباغية في هذا العصر! ففي بداية الحياة الانسانية كان عالم ما وراء الطبيعة محكوماً بضيق عالم المشاهدة الانسانية, وكانت الاوثان المؤلّهة بسيطة وساذجة في مستوى بساطة وسذاجة الانسان, ثم صارت الاوثان بشراً, أو صار البشر أوثاناً تعبد, مع تقدّم الحياة المادية واتساعها نسبياً, حيث في عصر الرق والعبودية القديم كانت الالهة من الادميين رجالا ونساء, من المتفوقين والمتفوقات الذين يجوعون ويأكلون ويظمأون ويشربون, ويحبون ويتزوجون ويكرهون ويقتلون, ثم يشيخون ويموتون! لقد جعل سادة عصر الرق والعبودية القديم من عالم طبقتهم الاجتماعية تجسيداً لعالم الالهة كي يتحكموا بنظام المجتمع وبمصائر الناس, وجعلوا من تجسيد الالهة, وتمثيلها لهم أو تمثيلهم لها, رمزاً لخلود نظامهم الظالم! أما في هذا العصر العبودي, الرأسمالي الاحتكاري الرّبوي, فقد أصبح المال هو الوثن المؤلّه, أو الامبراطور المؤلّه, حيث الرأسمالي الليبرالي الملحد يرى أنّ المصلحة العامة تتحقق من خلال تحقّق مصلحته الخاصة, وعلى سبيل المثال, كان صاحب احتكار سيارات كرايزلر الامريكية يردّد: "إن ما هو جيّد لكرايزلر جيّد لامريكا"! إن الرأسمالي الوثني يدعو معبوده المال كي يساعده بالباطل أو بالحق ضدّ منافسيه في السوق, أي أن إلهه المفترض متحيّز, ولا يمكن أن يكون إلهاً لجميع الناس!
أوثان الاحتكاريين المرابين الصهاينة!
ليست الوثنية سوى تجميد حياة الناس عموماً بواسطة القهر لصالح أقليات ضئيلة, والاوثان هي كل ما يؤلّه لحراسة هذا الجمود, و وهي كلّ عقيدة تعيق التطور والعدل والحق, وقد سمعنا كلاماً يصدر عن شخصية, هي الارفع مكانة سياسية في عالمنا الحاضر, تضمّن أن "إلهه" أمره بتدمير هذا البلد أو ذاك, والسيطرة على البلاد العربية والاسلامية وإخضاعها لارادته, ولا بدّ أنّ الذي أمره بذلك هو الوثن المال, أو الامبراطور المالي المؤلّه, فالمال وحده هو صاحب المصلحة الاولى في تدمير هذا البلد وذاك, والمال وحده هو صاحب المصلحة الاولى أيضاً في إعادة تشكيل وصياغة ما يسمى بمنطقة الشرق الاوسط بالصورة التي تلائمه وتخدم مصالحه الرّبوية!
لقد حدث قبل سنوات قليلة أن عقد اجتماع لاتحاد الحاخامين اليهود ضمّ خمسمائة منهم, وخلص المجتمعون إلى نتيجة مفادها أن خارطة الطريق تتناقض والتوراة! وقال حاخام يدعى ليبانون: "لم نكن قط في خطر مثلما نحن اليوم, فلا يوجد ما يمكن تعزيزه, وليس لنا خلفية, والحكومة قررت (إفساح المجال) لسيادة أجنبية في "إسرائيل", وإنّ الارض تشتعل تحت أقدامنا"! أما الحاخام الاخر, مردخاي الياهو, فقد تحدث عن قدسية كل ذرة مما سماه "أرض إسرائيل" قائلا: "لا حقّ لاحد أبداً من السقّائين والحطّابين وحتى رؤساء الحكومات في التنازل عن ذرة واحدة من أرض إسرائيل, فالرب أعطانا أرض إسرائيل, وفي كل ذرة منها قداسة"! وإنه لمن الواضح تماماً أنهم يتحدثون عن إله وثني خاص بهم, يتاجر بالعقارات ويرعى مصالح المرابين واللصوص وحدهم, وما التأكيد على قدسية كل ذرة من تراب فلسطين العربية المحتلة سوى التأكيد على أهمية موقع فلسطين كنقطة التقاء بين ثلاث قارات, تضمن السيطرة عليها التحكم بشعوب القارات الثلاث!
أنظروا.. هناك ستقام السفارة!
من هنا نفهم مغزى إصرارهم على أن القدس عاصمة موحّدة أبدية لليهود, فالادارة الامريكية تعدّ العدّة كي تكون القدس عاصمة إقليمية ربويّة, أمريكية صهيونية, وقد انكشف ذلك علناً منذ التسعينيات, أي أنها لن تكون عاصمة يهودية ولا مسيحية ولا إسلامية, بل أمريكية صهيونية! فإذا سارت الامور كما يخطّطون فسوف تصبح القدس مقراً إقليمياً للمال المؤلّه, أو الامبراطور المؤلّه, يقيم فيها أنطونيو الامريكي وخليلته الاقليمية كيلوباترا, ولسوف يمتعنا مثقفونا مرة أخرى بأغانيهم ومسرحياتهم ودراساتهم الفخورة عن كيلوباترا المحلية الحديثة وعلاقتها الشائنة بالاجنبي, طالما أنهم يفخرون بكيلوباترا القديمة, لا ندري لماذا!
وقد حدث على هامش قمة شرم الشيخ, التي عقدت في التسعينيات من القرن الماضي, أن وقف الرئيس الامريكي بيل كلينتون في شرفة فندقه في القدس, ودعا من حوله لرؤية قطعة الارض التي ستنهض عليها السفارة الامريكية, وقد كان مقرراً أن ينهض هيكلها في عام 1999 . لقد أشار الرئيس الامريكي بيده إلى ثلاثين ألف متر مربع من أرضنا المحتلة مخصّصة للسفارة الامريكية بعد استكمال ابتلاع القدس! فإذا سارت الامور كما يشتهي الامبراطور الوثني, ولم تقع أحداث معيقة من النوع الذي يحذّر منه الحاكم العربي, فإن الادارات المحلية في المنطقة, بما فيها الادارة اليهودية, سوف تواصل ترويض مجتمعاتها وتحضيرها وتطويعها للانخراط في خدمة المال الامبراطور, فالمشروع الشرق أوسطي الذي سينهض بعد حلّ مشكلة "الشرق الاوسط", أي بعد إخضاعنا وتطويعنا, هو مشروع مالي ربويّ عالمي, وهو يحتاج, إضافة إلى المال والمكنات والمنشآت, كتلة بشرية مستعبدة كافية, هي جزء أساسي من رأس المال الرّبوي العالمي المطلوب!
إضافة العراق إلى الكتلة البشرية!
منذ سنوات كان هناك الكثير مما يشير إلى أن الكتلة البشرية, الضرورية لخدمة رأس المال الامبراطور, سوف تتشكل من اليهود والفلسطينيين والاردنيين, الذين يتعرضون جميعاً اليوم لمحاولات ترويضهم وإعدادهم قبل إدخالهم في فيدرالية أو كونفدرالية أو ما أشبه ذلك, وها قد أضيف إليهم العراق الان, أما الادارة الاقليمية, أو المسؤول التنفيذي, فإن الحاكم العسكري الامريكي في العراق المحتل يعطينا صورة عنه!
إن البرنامج الامبراطوري الوثني مندفع على طريق صهينة وطننا من المحيط إلى الخليج, وهو يتقدم بينما يتظاهر بالتراجع, ويبسط هيمنته على المزيد من المناطق والاقطار بينما يحاول إيهامنا أنه ينسحب, أو مستعد للانسحاب, وأطرافه المحلية والدولية تتظاهر بالاختلاف والتناقض بينما هي تزداد تناغماً وانسجاماً وتكاملا وتلاحماً!
نعود فنقول أن مصير العرب هو مصير فلسطين, والقدس منها في القلب, إن هلكت هلكوا وإن نجت نجوا, علماّ أنّ الوثنيين, عبدة الاله المال, لم ينجحوا حتى هذه اللحظة في اختراق البنية التحتية للامة العربية والاسلامية, فيكون احتمال النجاة هو المنطقي والاقوى, وهلاك الوثنية الرّبوية هو المرجّح, فالامة لم تدخل ميدان الصراع بإرادتها وبثقلها بعد, ومن الواضح أنها اليوم على وشك الدخول.