بعد فترة صوم 55 يوما احتفل أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بعيد القيامة المجيد .. وهو صيام ليس كأى صيام، فهو الأطول وهو الأكثر زهداً وتقشفاً وروحانية حتى أنهم يعدونه أكثر أزمنة التوق إلى التوبة وعقد مواثيق ونظم جديدة للحياة والعبادة والخشوع والابتهال والعطاء والرحمة والمحبة "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسر الله" ..
فى إنجيل متى يقول السيد المسيح "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيداً. أو اجعلوا الشجرة رديئة وثمرها ردياً، لأن من الثمر تُعرف الشجرة" وهى دعوة فضلاً عن الإشارة لمساحة الاختيار الإنسانى، تحدثنا عن ضرورة العمل الصالح، وأهمية البحث عن الجودة والإجادة التى من شأنها تحقيق الهدف الأسمى من الالتزام بثوابت العقيدة والبعد عن مظاهر التدين الشكلى التى لا يمكن أن تنبت ثماراً أصيلة جيدة، وأعتقد أن على الكنيسة وهى المؤسسة العتيدة الرائعة على أرض المحروسة أن تلعب الدور الأهم، قد يبدو أنه بات مفقوداً إلى حد كبير فى تهيئة المناخ الضرورى الداعم لأولادها لتحفيزهم لزراعة الأشجار المثمرة ثمراً جيداً ..
وهناك حالة احتشاد لقوى من يحلمون بدعم هذا الدور والعودة لإقامة حوار هادئ مسيحى مسيحى برعاية ومحبة الكنيسة التى ينبغى أن يعود قادتها لبث رسالة هادئة متوازنة تقبل الحوار بشكل ديمقراطى سمح وإنسانى، ولعلى أذكر قداسة البابا وقادة العمل الكنسى فى مصر بما كان يُكتب ويُسمح به فى المجلة الرسمية للكنيسة المصرية "مدارس الأحد" والتى كان يرأس تحريرها قداسته، فى محاولة أن نعود لزمن السماحة ..
فى عدد أغسطس 1994 وتحت عنوان "9 معاثر فى حياتنا الكنسية لابد من تجنبها"
تطالعنا مقالة للدكتور سليمان نسيم أحد أهم من شاركوا بفكرهم الإصلاحى الرائع .. يطرح بأسى فى افتتاحيتها علامات استفهام حول ما يحدث من تراجع فى الأداء الطيب لإدارة الكنيسة وما يتلاحظ من أحداث سلبية.. يقول: إن الإنسان ليتساءل فى حيرة: ما هذا الذى يحدث فى الكنيسة القبطية الآن، والذى نتابع أخباره بتفصيل دقيق فى الصحف والمجلات العامة ضمن أخبار المجتمع الصاخب والصراعات السياسية والمذهبية والدولية فى كل مكان، وسط المقالات والتحقيقات، ذات الصبغة المهنية منها وغير المهنية!! وكأن الكنيسة التى هى أصلاً موضوعة فى العالم واحة للسلام ومنارة للأمم، وميناء للسلام والأمان وسفينة للنجاة، قد صارت هى أيضاً ضمن بؤر التوتر والشقاق والمنازعات التى تسود العالم اليوم .. يا الله! أهكذا صارت أخبار الكنيسة ؟.. أما آخرها فكان خبر هذه الأحداث المؤسفة بل هذه المأساة المحزنة المبكية التى حدثت فى كنيسة القديس أبو سيفين يوم عيده فى مصر القديمة، والتى تعرض فيها أبونا قداسة البابا ـ رمز الكرسى المرقسى الإسكندرى ـ لما تعرض له من مهانة تأسف عليها كل قبطى ومسلم على حد سواء .. إنها حلقة فى سلسلة أحداث فوجئ بها الشعب القبطى على مدى السنوات الطوال الماضية وكلها تتلخص فى الآتى: ثقة لا حد لها توضع فى شخص، ثم فجأة شكوك لا حد لها، ثم ضربة قاضية، ثم تشهير فى الصحف وفى الكتب التى يصدرها أحد الصحفيين غير المسيحيين! .. شىء لم نسمع به من ولم يفعله أحد من قبل، ولم يحدثنا التاريخ بمثله إلا فى عصور الصراعات التى أفرخت انقساماً حاداً فى الكنيسة ما زالت تعانى منه المسيحية فى العالم حتى اليوم !
ما هذا الذى يحدث فى الكنيسة؟ وبأى وصف يمكن وصفه؟ وإلى متى يستمر ذلك؟ ومتى ينتهى؟
وهنا أطرح سؤالاً: ماذا كان يمكن أن يقول د. نسيم لو كان بيننا الآن عن تطور العلاقة بين الكنيسة كمؤسسة عتيدة ووسائل الإعلام وهذه الشهوة المبالغ فيها من قياداتها لقول ما يلزم وما لا يلزم والامتناع عن الرد فى الوقت الذى يتطلب ضرورة الرد لدرجة قول البابا فى تصريح غريب على هامش الاحتفالات بعيد القيامة، هناك حالات لا يجب فيها أن ترد الكنيسة، فإذا لم يتم الرد ما ذنب جموع المؤمنين الذين تابعوا رد فعل الرأى العام بعد النشر من عدم نفى الكنيسة عبر حالة من التعالى الغريبة، وهنا يبدو الخبر وكأنه صالح للتداول ..
من أهم المعاثر من حياتنا الكنسية ما لاحظه الشعب القبطى وعلق عليه هو: المواجهة الشخصية للراعى الأكبر مع مرؤوسيه من كهنة أو رهبان أو علمانيين (أعضاء الشعب) ممن يخدمون فى الكنائس والإيبارشيات والمعاهد. هذه المواجهة الشخصية التى ظهرت بأجلى وضوح فى حادثة كنيسة أبو سيفين ..
وقد تأسف الجميع للوضع الذى وضعت فيه القيادة الكنسية العليا فى موقف خصومة شخصية مع راهب كاهن، مع أن كرامة الأب تكمن فى أن يظل فى موقع الراعى والأب، ويظل هو المرجع والحكم النهائى الأخير بين المتخاصمين والمتنازعين من خدام وأعضاء شعبه. والسؤال الذى جرى على ألسنة الجميع: ألا توجد قيادات كنسية حكيمة فى رتبة أقل كان يمكن أن تتعامل مع الأحداث اليومية للكنيسة بطريقة هادئة منظمة وتدبرها تدبيراً حسناً حكيماً بما ينأى بالأب البطريرك عن مثل هذه المواجهات الشخصية، والتى حدثت مثلها من قبل مع أفراد عديدين من كافة الرتب الكهنوتية أو من الشعب؟
ومن المعاثر أيضاً التى ذكرها د. نسيم ما أطلق عليه المخاصمة الشخصية .. يقول: لقد استبشر الجميع خيراً يوم تولى قداسة البابا مقاليد الكرسى البطريركى الإسكندرى، وعلى الأخص رفقاؤه فى الخدمة السابقون الذين كانوا يخدمون معه أو كانوا معاصرين له، بل ومعلموه وآباؤه الروحيون الذين كان قداسته يستمد الكثير من مبادئه وتعاليمه منهم قبل رهبنته وبعدها. وكان من المتوقع أن يستمر التعاون والتشاور بين رفقاء المسيرة والخدمة السابقين، ولكن بمرور الوقت أهمل أصحاب الكفاءات الروحية والعلمية اللاهوتية فى الكنيسة واستعيض عنهم بالشباب غير المهيأ والذى لم يحصل من الخبرة والمعرفة ما كان للخدام القدامى هؤلاء ..
ويضيف د. نسيم أن كنيستنا هى كنيسة تقليدية، أى كنيسة استلام وتسليم. يسلم فيها الأقدمون والمختبرون الأجيال الصاعدة والشباب المبتدئين، هكذا تواصلت مسيرة التعليم والحياة المسيحية فى الكنيسة منذ عصر الرسل مروراً بآباء الكنيسة الأبرار وحتى عصرنا الحاضر. ولكن هذا التسليم توقف بتجاهل دور الشيوخ (أى شيوخ الخبرة والمعرفة) والاعتماد فقط على حديثى السن والمعرفة والخبرة ممن يدينون بالتبعية والطاعة المطلقين!
ويضيف د. نسيم، أن من المعاثر التى تعيشها الكنيسة تأثر القرار الكنسى .. لقد كان من نتيجة ذلك أن سرت فى الوسط القبطى رذيلة تصنيف الأقباط بحسب ما يعتبره الرئيس الدينى أنه انتماء إلى هذا المعلم أو إلى ذلك الأب أو إلى غيره من المعلمين. أمر لم يحدث إلا أيام الاضطهادات والهرطقات المظلمة فى القرون الأولى فكان أن أدى إلى ما أدى إليه من انقسام المسيحية إلى كتل وشيع وطوائف، ظلم فيها آباء قديسون ومعلمون لاهوتيون أبرار مثل البابا ديسقوروس والقديس يوحنا ذهبى الفم وغيرهما.
وهكذا تأثر القرار الكنسى بهذه العملية من تصنيف مفتعل ليس له وجود إلا فى مخيلة المصنف ليظهر بعد ذلك فى الرسامات وفى التعامل مع المؤسسات الكنسية ومعاملتها، وفى الحكم على الأشخاص وآرائهم وكتاباتهم، وفى الكثير من مجالات الحياة اليومية للعمل الكنسى، لقد أصبح القرار الكنسى مشوباً بالانحياز "ضد" أو "مع" حسب نوع تصنيف الانتماء الذى يختاره المصنف!
واختتم د. نسيم بالإشارة إلى معاثر من بينها الإصرار على رفض توبة الخاطئ وعدم المسامحة، وكذلك الإشارة لما شاب المحاكمات الكنسية من شوائب، وإغلاق الأبواب أمام تبادل للرأى وللمشاركة فى العمل الكنسى، والمشاركة بالرأى وأزمة للصحافة القبطية، وأخيراً التدخل فى الشئون الداخلية للكنيسة من جانب الإعلام السياسى المدنى ..
قداسة البابا .. هذا بعض ما كان يطرح فى مطبوعات كنسية عبر مساحات رحبة من التسامح النبيل .. لقد علمتم أبناء الكنيسة وجماعة المؤمنين أن من أهم دروس القيامة هو حدوث مصالحة بين الناس وخالقهم العظيم، فهذا هو جوهر عيد القيامة المجيد "هوذا الكل قد صار جديداً، ولكن الكل من الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح" .. إننا فى انتظار المصالحة..